تعلمنا من الدكتور سيد عويس -رحمه الله- الاستماع إلى هتاف الصامتين، والتعلُّم من حكمة بسطاء شعبنا العظيم. تذكرتُه بعد صلاة الجمعة عندما استوقفنى البقال المجاور وسط الجيران مبتسماً متسائلاً بخبث: هيه يا عم الشيخ.. هنقول إيه بكرة؟ نعم ولّا حاضر؟ لم تكن نسبة ال58% (حتى كتابة المقال) التى قالت «نعم» تعنى «نعم» فعلاً، فلا هى قصدت الموافقة على دستور استعصت مواده على الفهم واختلفت النخبتان الإسلامية والمدنية على تقييمه، ولا كانت كلها تقصد تأييد الجماعة والرئيس وسياساته. أجبر الرئيس الشعب على الذهاب إلى الاستفتاء للاختيار بين الموافقة على دستور وضعه الإسلاميون وحدهم ويضيِّق على حقوق وحريات العديد من الفئات والأقليات والمهمشين فى المجتمع، أو استمرار إعلان دستورى يحصن قراراته ثم آخر يحصن إعلاناته الدستورية. أجبرهم على الذهاب منهكين قلقين بسبب الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار وتفاقم البطالة. أجبر الرئيس نصف هذه النسبة تقريباً (29%) على الانصياع والاستسلام الطوعى للتصويت ب«حاضر» التى تعنى على الورق «نعم»، إضافة إلى ال29% الأخرى التى تؤيد التوجه الفكرى للرئيس والجماعة أصلاً، والتى عبَّر عنها الداعية صفوت حجازى بقوله: «لن نصوت للدستور ب(نعم) فقط، بل ب(نعمين)». فى المقابل، اتخذ حوالى 42% قراراً صعباً برفض انفراد الإسلاميين بكتابة دستور البلاد وتخبُّطهم فى إدارة شئون البلاد، وعلى الرغم من غموض المسار السياسى إذا ما رُفض الدستور، واستطالت الفترة الانتقالية نتيجة البدء من جديد فى عملية التوافق على كتابة دستور جديد بين تيارات متناحرة، على الرغم من ذلك كله اختارت تلك الكتلة المتمركزة فى قلب المدن وطبقتَاها الوسطى والعليا أن تقول «لا الصعبة»، وهى نسبة معتَبَرة إذا ما قورنت بنسبة الرافضين لاستفتاء غزوة الصناديق فى مارس 2011، والتى لم تتجاوز 22%. تكشف نتائج الاستفتاء عن انخفاض التأثير السياسى لعامل استغلال الدين فى السياسة، وهو ما كان الإسلاميون يعتمدون عليه دائماً. لم يعد من المقبول أن يستمر الإسلاميون على تصورهم القديم بامتلاك الشارع وابتعاد الجماهير عن القوى المدنية، وبالتالى عليهم أن يركزوا أكثر على تحقيق الوفاق الوطنى وتحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية أو على الأقل بدايات ملموسة فى هذا الاتجاه. سيظفر الرئيس والجماعة بدستور سليم من الناحية القانونية الشكلية، ولكنه يفتقر للمشروعية السياسية؛ إذ سيظل التشكيك فى افتقاره لشرط التعبير عن التوافق الوطنى بين كل طوائف المجتمع واتجاهاته السياسية، وللاعتراف الدولى بعد التعويق المتعمد للمتابعة المعتادة فى العالم كله من قِبل المنظمات الدولية كمنظمة العفو الدولية ومركز كارتر، وهو تعويق لا يُفَسَر دولياً إلا كتعبير عن نية التزوير أو التجاوز فى الإجراءات لصالح النظام على الأقل. وأخيراً سيفتقر الدستور للشرعية الداخلية بعد تفويض مجلس حقوق الإنسان بإصدار التصاريح للمراقبين، وهو معروف بأغلبيته الإسلامية ورئاسة المستشار الغريانى نفسه له، وإعطاء قاضى اللجنة الانتخابية الحق المطلق فى السماح للمراقبين من عدمه، وتحرير آلاف التصاريح لأعضاء حزب الحرية والعدالة كمراقبين، مما سمح لهم بالتأثير داخل اللجان، والاستعانة فى الإشراف بموظفين ادعوا أنهم قضاة، وتعمد إبطاء عملية التصويت لساعات طويلة، خاصة فى لجان النساء فى المناطق المعروفة بتوجهاتها المعارضة، وتجاهل اللجنة العليا لمئات الشكاوى والمحاضر التى تم تحريرها دون التحقيق فيها، وهو ما انتهى إلى توافق المنظمات على التشكيك فى سلامة إجراءات الاستفتاء ونزاهته، والمطالبة بإعادته. هذا الافتقار للمشروعية فى الاستفتاء يمهد بقوة لاستمرار حالة عدم الاستقرار السياسى واحتمالات تفاقم العنف الذى بدأت بوادره، ما لم يسارع الإسلاميون بالعودة إلى طريق الحوار والمصالحة والتوافق الوطنى قبل فوات الأوان.