فى عالم السياسة، لا بد أن تتجرد من أى معايير أخلاقية أو مبدئية، وكلما ارتفع سقف النفاق، ازداد ضجيج النجاح، يقول فلاديمر لينين: «فى السياسة لا يوجد فرق بين خيانة بسبب البغاء، أو خيانة بشكل معتمد ومحسوب»، وفى السياسة الأمريكية بالتحديد فإن هذه النظرية تلاقى رواجاً منقطع النظير، عبرت عنها الضجة الأخيرة التى أثارتها هيلارى كلينتون بعد الرسالة التى وجهتها للملياردير اليهودى الأمريكى «حاييم صابان»، وذكرت فيها أنها فى حال تولت الرئاسة الأمريكية، فستسمح لإسرائيل بقتل 200 ألف فلسطينى فى غزة، وليس ألفين فقط، فى إشارة إلى عدد من قتلتهم إسرائيل خلال عدوانها على قطاع غزة، تقول «كلينتون» فى الرسالة: «صحيح أننى أم وجدة، لكن حقوق الأطفال لن تجعلنى أتردد لحظة بالسماح لإسرائيل بقصف المدارس التى تطلق منها الصواريخ فى غزة، لأن هؤلاء يستعملون الأطفال كدروع بشرية، ويستحق الإرهابيون أن يروا جثث أطفالهم تحترق بسبب القنابل والصواريخ». الرسالة التى نشرتها صحيفة «الجارديان» البريطانية بمثابة إعلان نوايا واضحة لسياسة كلينتون المنتوية انتهاجها، خاصة مع إعلان نيتها منح الضوء الأخضر لإسرائيل بقتل ما يقارب 10% من سكان قطاع غزة، بالإضافة إلى الدعم السياسى والاقتصادى والعسكرى الكامل لإسرائيل، وقد عوّدنا رؤساء أمريكا على اختلاف مشاربهم سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين، حينما يدخلون سباق الترشح للرئاسة، التودد الفج والصارخ للوبى الصهيونى، وإطلاق العنان للوعود المحملة بطمأنة إسرائيل نحو ثبات مواقفهم السياسية تجاه أمنها واستقرارها، وتقديم الدعم الكامل لها، وعدم التخلى عن مصالحها الاستراتيجية المرتبطة جدلاً بالسياسة الأمريكية. هيلارى كلينتون الأوفر حظاً للفوز فى الانتخابات الرئاسية لها مواقف متطرفة بشأن القضية الفلسطينية، وعندما كانت تمثل سياسة الإدارة الأمريكية كوزيرة للخارجية كانت تتبنى سياسة بلادها، فتطالب بإجراء مفاوضات مباشرة هادفة بين الفلسطينيين وإسرائيل إلى إعلان دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وأن تشمل هذه المفاوضات كل القضايا بما فيها القدس، وتنتقد الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية، وتعتبرها غير شرعية، لكن دون أن تنسى دعم إسرائيل بتصريحات قوية، مثل أن الالتزام الأمريكى بأمن إسرائيل صلب كالصخر لا يتزحزح. مواقفها هذه أطلقتها عندما كانت مجبرة على اتباع السياسات الرسمية للبيت الأبيض، وعليه لا يمكن القول إنها ستتخذ المواقف ذاتها لو كانت رئيسة الولاياتالمتحدةالأمريكية، ففى كتابها «خيارات صعبة»، الذى صدر عام 2014، طرحت هيلارى كلينتون تصورها لحل الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، حيث رأت أن أكثر ما يمكن لإسرائيل أن توافق عليه، هو منح حكم ذاتى للفلسطينيين فى مقابل حصول إسرائيل على الأمن، رغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلى الليكودى المتطرف، الذى يعلن أحياناً رفضه حل الدولتين سرعان ما يضطر إلى التراجع عن هذا الموقف، حتى لا يفضى إلى صدام مع المجتمع الدولى! وفى سياق آخر من كتابها، تتبنى «كلينتون» حجة اليمين الإسرائيلى الرافض لمسألة الانسحاب من الأراضى المحتلة، خشية أن تسفر التحولات فى العالم العربى عن تطورات سلبية تجعل المناطق التى ينسحب منها جيش الاحتلال قواعد انطلاق للعمل ضد إسرائيل، وتدعى «كلينتون» أنه من الصعب تسويق فكرة الانسحاب من الأراضى المحتلة، فى الوقت الذى تتهدد أنظمة معتدلة المخاطر، بل وتطالب بإضفاء شرعية على التوسع الإسرائيلى داخل الضفة الغربية. وفى أحداث «هبة القدس» لم تخف كلينتون تعاطفها مع المستوطنين اليهود، الذين لا يغادرون منازلهم خشية تعرضهم لاعتداءات المقاومين الفلسطينيين دون أن تبدى أى تفهم لدوافع الفلسطينيين، وهم الذين يتعرضون للقمع الإسرائيلى كل لحظة. عاصفة الانتقادات والغضب الشديد من منظمات حقوق الإنسان والديمقراطيين التى أثارتها رسالة كلينتون، دفعت مسئولين عن حملتها الانتخابية إلى التوضيح بأنها قصدت أن تكتب 20 ألفاً وليس 200 ألف!! هذا التبرير عذر أقبح من ذنب، فقتل 20 ألف فلسطينى هو جريمة مروعة، وليس بأقل من سياسة فاشية أو وحشية فى انتظار البيت الأبيض.