انتحرت السندريلا.. لم تُقتل.. الاكتئاب أودى بحياتها.. لا لم تكن مكتئبة.. البهجة كانت تشملها.. والرغبة فى العودة القريبة للوطن هو حلمها الذى كانت تتعجل الأيام لتحقيقه.. زاد وزنها بشكل مخيف.. لا نقص وزنها وعادت رشيقة كفراشة رقيقة.. فقدت شعرها.. لا.. إنه كما كان ينسدل على كتفيها فى سحر ونعومة.. وهكذا تضاربت الأقوال وظهر للحقيقة ألف وجه.. وذلك قبل أن تسدل المحكمة البريطانية الستار على قضية رحيل «سعاد حسنى» مؤكدة انتحارها. وطوال هذه الأعوام ونحن نعانى من انفتاح شهية النمامين ومسارعة الفضوليين إلى دس أنوفهم.. وتبارى الأدعياء فى الاستنتاج والتفسير وتحول الجميع إلى محققين وقضاة ومحامين.. وتحولت السندريلا إلى مائدة مثيرة يتسابق ذوو الجلود السميكة والمشاعر الغليظة إلى وليمة أكل لحمها الميت فى مشهد مأساوى يشبه تماماً مشهداً فى فيلم «فيللينى» الكابوسى «ساتيركون» حيث تكاتف بشر ليسوا ببشر لينهشوا جسداً آدمياً فى نهم وتلذذ واستمتاع سادى.. بينما دماء الضحية تتساقط من بين مخالبهم وأنيابهم. إن الذين يتدافعون بالمناكب فى المواكب الجنائزية يرتدون النظارات الشمسية والأقنعة.. ويتخذون الأوضاع المناسبة للتصوير ويجهشون فى بكاء شفيف يمزق نياط القلب ويتنافسون فى سباق محموم فى سرد مناقب الفقيدة الغالية ومآثرها فى أحاديث صحفية وتليفزيونية حزينة مبللة بدموع الحسرة والالتياع.. بعضهم اتهم المسئولين بالجحود لعدم رعايتهم «أخت القمر».. ولاموا الحكومة على تقصيرها فى حق علاجها.. ولاكوا بألسنتهم تفاصيل لأيامها البائسة فى مدينة الضباب.. وبعضهم اتهموا المضيفة صديقتها بقتلها مع سبق الإصرار.. وآخرون أكدوا مصرعها بواسطة الموساد الإسرائيلى.. وبعضهم ألصقوا التهمة بصفوت الشريف.. وحينما تسألهم وأين كانت أياديكم أنتم الكريمة تجاهها فى ظل أزمتها وغربتها يؤكدون حرصهم السابق على الاتصال بها فى بلاد الغربة دون جدوى.. فماذا يملكون إزاء هروبها المستمر من اللقاء وتعمدها تغيير رقم هاتفها؟ وأى معاناة رهيبة تلك التى بذلوها فى محاولتهم الوصول إليها ولا مجيب؟ ذلك فى الوقت الذى كانت تعانى فيه من حصار ومطاردة التائبات عن الفن وإصرارهن على دفعها بكل الإلحاحات الممكنة إلى الاعتزال وإعلان التوبة والاعتراف بأن الفن حرام.. وارتداء الحجاب.. وهو ما رفضته بشدة.. وبادرت وقتها بالتأكيد أنها تؤمن بالله.. وتؤمن بأن الفن هو وسيلة من وسائل هداية الإنسان إلى الصراط المستقيم. إن اكتئاب الشريدة الضائعة فى براثن الوحدة والغربة والتجاهل.. والإفلاس والمرض هو القاتل الحقيقى.. والجحود والنكران هما المجرمان اللذان يسيران فى جنازة الضحية. أما فيما يتصل بواقعة الانتحار فقد استنكروها كما استنكرتها أسرتها بدافع من واقع دينى يحرم قتل النفس التى خلقها الله سبحانه وتعالى.. وأغفلوا أنه تحت تأثير مرض الاكتئاب اللعين يصبح المريض غير مسئول عن فعلته التى أوصله إليها أصحاب القلوب الغليظة والضمائر المتحجرة. إن حجم المعاناة التى عاشتها «سعاد» فى عاصمة الضباب كانت قاسية إلى درجة يصعب احتمالها.. وتذكرنا بمعاناة «مى زيادة» أثناء وجودها فى مستشفى العصفورية فى «لبنان» فرغم أن الجميع كانوا يعرفون أنها دخلت المستشفى عنوة بمؤامرة من ابن عمها وأنها فى كامل قواها العقلية فإنهم تخلوا عنها.. بل صدقوا أو ضحكوا على أنفسهم وصدقوا أنها فقدت عقلها ليريحوا ضمائرهم المثقلة بالإحساس بالذنب تجاهها ومحاولة الكثيرين التأكيد على شائعات عن مقتلها بالدفع بها من الشرفة هى محاولات -من وجهة نظرى - يمكن أن نسميها ألعاباً نفسية أو حيلاً دفاعية تبعد عن القتلة الحقيقيين شبهة اغتيال «سعاد» بالإهمال والتجاهل والجحود. لقد ماتت «سعاد حسنى» منتحرة بفعل الاكتئاب.. ماتت وعلى حد تعبير د. جلال أمين - لأننا لا نستحقها.