لماذا تتسع دائرة الخصومة بين الأزهر كمؤسسة دينية تمثل واحدة من أهم مرجعيات الدين الإسلامى إن لم تكن أهمها وأكثرها تأثيراً، وجمهرة غير قليلة من المثقفين المصريين، يختلفون مع مؤسسة الأزهر حول عدد من قضايا الفكر الإسلامى فى تعرضه لمتغيرات السنن والشرائع، يرى هؤلاء المثقفون أنها نتاج فكر إنسانى لا مناص من أن يتسع لحق المراجعة والنقد، كى يلبى مقتضيات التطور والحياة وإلا حكم على نفسه بالجمود، وتحول إلى عقبة كؤود تعوق تقدم المجتمعات الإسلامية التى يرزح أغلبها تحت وطأة مشاكل الفقر والتخلف!، ويسودها الجهل والخرافة ومعاداة النظرة العلمية!، ويسيطر عليها نظم حكم أغلبها يدخل فى دائرة الاستبداد، لا تحترم حريات الرأى والتعبير والإبداع، ولا تتسع لمشاركة حقيقية تمكن المواطن من حراسة حقوقه فى العدل وتكافؤ الفرص وتحسين جودة الحياة، وضمان وصول مسيرة التقدم الإنسانى إلى أهدافها الصحيحة!. ويزيد من أزمة الثقة بين الأزهر وجمهرة المثقفين المصريين الذين ربما يصعب تعريفهم على نحو شامل جامع، وإن كانت ميزتهم الأساسية التى يتشاركون فيها، إعلاء دور العقل فى تأويله للنص الدينى بما يضمن مصالح العباد والتكيف مع مقتضيات العصر واحترام ثوابت الإسلام، خاصة أن هؤلاء المثقفين لا يعفون مؤسسة الأزهر من مسئولية ما آلت إليه أوضاع مصر وأوضاع المسلمين عموماً، نتيجة جمود الفكر وغياب الاجتهاد، والانتقاص من حريات التعبير والإبداع، وتقديس كل ما أنتجه السلف دون فرز حقيقى لما هو صالح وما هو طالح، واعتبار كل حداثة بدعة وكل بدعة ضلالة.. ويزيد بعضهم على ذلك النقد ليصل إلى حد اتهام مؤسسة الأزهر كمؤسسة تعليمية بأنها المسئولة عن جمود الخطاب الدينى الذى عجز عن مواجهة حركات التطرف فى شططها البالغ واستحلالها للعنف وارتكابها جرائم بشعة باسم الدين الإسلامى تحت مسمى الجهاد، أساءت إلى صورة الإسلام وزادت من بأس أعدائه، ويعزون ذلك إلى أن نسبة غير قليلة من مناهج الأزهر التعليمية تروج لأفكار العنف والخرافة والتطرف، وتعلى من شأن النقل على حساب العقل، وترفع بعض أفكار السلف التى تؤسس للعنف إلى حد القداسة!، مع أن القرآن يعتبر التفكير فريضة إسلامية، وينص فى عشرات من آياته على حسن استعمال العقل والتأمل والتفكر فى آيات الخلق. ومع الأسف يصل نقد مؤسسة الأزهر فى بعض الحالات إلى حد التطاول على منصب شيخ الأزهر الذى ينبغى أن يحاط بالاحترام والتبجيل الواجب، خاصة مع وجود الشيخ الأكبر أحمد الطيب، على رأس مؤسسة الأزهر، الذى يعرف الجميع وسطيته واعتداله ورفضه لفكر التطرف وإنكاره لفقه البداوة.. وما من شك أن صدور حكم بالسجن على إسلام بحيرى فى قضية حسبة رفعها بعض المنتسبين للأزهر تتهمه بازدراء الدين الإسلامى استناداً إلى خشونة كلماته رغم أنه لم يلحد ولم يجدف زادت من أزمة الثقة بين الأزهر كمؤسسة دينية وتعليمية وهذه الجمهرة الواسعة من المثقفين المصريين الذين يتهمهم بعض علماء الأزهر بالعلمانية التى تعنى من وجهة نظرهم الإلحاد وإنكار الدين، مع أن العلمانيين يمكن أن يكونوا متدينين صالحين. ويكشف البيان الأخير الذى صدر عن هيئة كبار العلماء فى الأزهر تحت عنوان (بيان للناس) وردود فعله وسط جمهرة المثقفين المصريين مخاطر اتساع أزمة الثقة بين الطرفين؛ لأن البيان اتهم انتقادات بعض مناهج التعليم الأزهرية بأنها طعن فج على ثوابت (التراث الإسلامى) وإنكار لمذهب أهل السنة والجماعة، كما أنها تشكل حملة ظالمة على الإسلام تستهدف هدم الأزهر وإهانة الأئمة، على حين اعتبرت جمهرة المثقفين المصريين بيان هيئة كبار العلماء عودة إلى صكوك الغفران التى كانت تصدر عن الكنيسة فى العصور الوسطى، منكرين (ثوابت التراث)؛ لأن تراث الفكر الإسلامى هو تراث بشرى يقبل النقد ويحتاج إلى التنقية والمراجعة. ولولا تصريحات الشيخ أحمد الطيب التى رفضت ادعاءات البعض بأن مناهج الأزهر مناهج إرهابية على نحو حاسم، وأكدت فى الوقت نفسه أن الأزهر على استعداد لأن يقبل النقد الهادئ والموضوعى الذى يبنى ولا يهدم، لأنه ما من أحد معصوم من الخطأ سوى الأنبياء، لما كان ممكناً الحديث عن الفرص المتزايدة لفتح حوار جديد بين الأزهر والمثقفين المصريين، يرمم علاقاتهما ويقرب وجهات النظر المتباعدة، خاصة أن هناك سابقة محمودة مهمة جمعت الأزهر بالمثقفين المصريين فى حوار بناء، أنتج وثيقة وطنية مهمة عبرت عن وفاق المصريين على ضرورة احترام حقوق المواطنة. لكن الحوار بين الأزهر والمثقفين المصريين رغم أهميته الكبرى فى التوقيت الراهن يظل محفوفاً بمخاطر جمة خوفاً من أن يؤدى إلى اتساع شقة الخلاف بدلاً من تضييقها ما لم تكن هناك خطوط أساس عريضة ترسم خارطة واضحة للحوار، تجنب الطرفين الانزلاق إلى خطوط حمراء تفسد الحوار وتضرب أهدافه، التى تخلص فى حصار الفكر المتطرف وتوحيد جهود الأمة لدحر الإرهاب، وإعلاء قيمة العقل فى تفسير وتأويل النص الدينى. بين خطوط الأساس اللازمة لإنجاح الحوار بين الأزهر والمثقفين المصريين، ضرورة الاحترام المتبادل والحفاظ على مكانة الأزهر باعتباره واحداً من أهم قوى مصر الناعمة وتأكيد رسالته الوسطية، وتبجيل شيخه الأكبر، وتجنب توجيه أية اتهامات متبادلة لا تقوم على أى أساس. ثانياً، القبول المتبادل لثوابت راسخة فى الدين لا يجوز المساس بها، تتعلق بالوحدانية وأصول العبادات والشهادتين والاعتراف بالغيب الذى يختلف تماماً عن الخرافة لأنه يتعلق بقدرة إلهية غير محدودة. ثالثاً، تحديد النص الدينى بوضوح قاطع لا يتجاوز نصوص القرآن والسنة الصحيحة، وما عداهما يدخل فى نطاق الفكر البشرى الذى يسمح للعقل الإنسانى بمراجعته ومناقشته. رابعاً، إعادة النظر فى النص القانونى المتعلق بازدراء الأديان بما يحفظ قداسة المقدسات ويحترم عقائد كل الأديان ويعترف بالآخر دون الإخلال بحرية الاعتقاد، وعدم جواز أن يتحول الأزهر إلى سلطة دينية تتجاوز حقها فى النصح والإرشاد والموعظة الحسنة إلى التفتيش فى صدور الناس. خامساً، الاعتقاد الراسخ بأنه فى قضايا الفكر الإنسانى يجب أن يلتزم الجميع بمنهج الحوار، لأنه لا يصلح الفكر سوى فكر آخر أكثر نضجاً وعقلانية وقدرة على الإقناع.. ومن ثم لا يجوز رفع الدعوى القضائية ضد كل من يختلف مع الأزهر فى أى من قضايا الفكر الإسلامى. فى إطار هذه الخطوط العريضة التى يتوافق معظمها مع منهج الأزهر الذى يتبنى التعددية، يدرس الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية دون الانحياز إلى أى من المذاهب، ويربى تلاميذه على حق الاختلاف والتنوع الذى جعلهم أكثر قدرة على رفض أفكار التطرف والإرهاب، أتمنى على شيخ الأزهر الشيخ الطيب أن يدعو لإطلاق حوار جديد بين الأزهر والمثقفين المصريين، يناقش القضايا المهمة المختلف عليها لعل مساحة الاتفاق تصبح أكبر من مساحة الاختلاف، وأملاً فى توحيد كل الجهود الوطنية لمواجهة العنف وأفكار التطرف، وردماً لهذه الهوة السحيقة بين مؤسسة الأزهر ونخبة المثقفين المصريين التى تزداد مع الأسف اتساعاً.