عشت فى مصر خمسة وعشرين عاماً من أوائل الستينيات حتى منتصف الثمانينيات. عشت عصر عبدالناصر وحرب 67 وحروب الاستنزاف، ثم عصر السادات وحرب 73 والانفتاح الاقتصادى ومعاهدة كامب ديفيد وثورة التصحيح، ثم أوائل عصر مبارك المبارك. أطول غياب غبته عن مصر كان لمدة ثلاثة أعوام ونصف فى سنواتى الأولى فى فيينا. وهى أيضاً الفترة الذهبية لاستلام شىء، يكاد يخص المتاحف الآن، كان اسمه «الرسائل البريدية» التى عليها طابع بريد جميل يذكّر بالوطن، وعنوان المرسِل؛ رسائل بخط اليد ما زلت أحتفظ بها كلها حتى اليوم، بل كانت تصلنى فى تلك الفترة رسائل صوتية مسجلة على شرائط كاسيت، بصوت كل أفراد الأسرة والأطفال والجيران، وربما يتداخل معها بالصدفة صوت بائع مار أو أصوات أفراح أو صوت أذان. * كنت أذهب للسينما مع العائلة أو مجموعة عائلات، خصوصاً سينما الزيتون «الصيفى»، لنشاهد الأفلام المصرية فنحب فريد شوقى ونكره محمود المليجى ونتعجب من مكر توفيق الدقن. النساء يعشقن رشدى أباظة وأحمد مظهر والبنات عبدالحليم حافظ وأحمد رمزى ونور الشريف ومحمود ياسين وحسين فهمى والرجال فاتن حمامة وماجدة ونادية لطفى وهند رستم وتحية كاريوكا والشباب ميرفت أمين ونجلاء فتحى ونبيلة عبيد وبوسى ونوراً. مع أخى خالد كنت أشاهد الأفلام الأجنبية مثل صراع الجبابرة وصراع الوحوش وأفلام «الكاوبويز» وتشارلى تشابلن. لم تكن السينما حراماً، ولم يكن تعليق «بوسترات» الفنانين والفنانات أو لاعبى كرة القدم أو لبس البنطلونات الشارلستون أو تطويل السوالف وتطويل الشعر حراماً، ولم يكن بملابس البنات العصرية أى عيب، ولم يكن لهن «يونيفورم» نسائى مسموح به. كنا نجلس فى مدرجات الجامعة معاً أو نذهب لكافتيريا الجامعة أو نخرج فى رحلات جامعية معاً. * كأطفال كنا نستمع اضطراراً لما يستمع له الكبار، ثم تتفرد أذواقنا فى سنوات المراهقة والشباب، نستمع إلى أصوات جميلة من محمد رفعت وأم كلثوم والنقشبندى ونجاة الصغيرة وعبدالباسط وعبدالوهاب وسعاد محمد وأسمهان والحصرى والبنا وعبدالمطلب وقنديل وشادية ووردة الجزائرية وفايزة أحمد ومصطفى إسماعيل وشعيشع وعبدالحليم والمنشاوى. لم يكن الصوت فجاً ومتنافراً مثل هذا التلوث السمعى من ميكروفونات هذه الأيام، التى تقلق الناس فجراً بحجة أنها تدعوهم للصلاة؛ فمن يريد أن يصلى لديه اليوم عشرات الوسائل التى تجعله يستيقظ ليذهب لأداء الفريضة، وليس بحاجة لميكروفون يقلق المريض والرضيع وغير المسلم. الباعة أيضاً يبدأون من الفجر وطوال النهار باستخدام ميكروفونات بأصواتهم الرديئة، واختفى تدريجياً هذا البائع ذو الصوت الجميل المنغم، مثلما اختفى صوت المؤذن الجميل الشجى. الزبال القديم أيضاً انقرض تدريجياً، وصارت أكوام المزابل فى الشارع أهرامات صغيرة تعلو وتتسع، وأصبح الناس ينتقمون من السلطة فينتقمون من أنفسهم، ومع تفاقم الفقر وتمدده لأطراف المدن، لجأ البعض لإنقاذ نفسه إلى جزر مغلقة بعيدة عن الضجيج وعن الوباء البشرى الزاحف بلا رحمة! * فى هذه السنوات البعيدة التى عشتها فى مصر لم يكن هناك قهر للمرأة مثلما يحدث الآن، لم يكن هناك تحرش بهذه الفجاجة، كانت المرأة المصرية امرأة مصرية حرة، إلى أن أصبحت كلمة «حرة» فى العصر الحديث مثل سبة، صار الناس يستوردون حياة فقيرة شكلاً ومضموناً مملوءة بكماليات غير ضرورية، فمن يصرف الآن على نظافة حمامه ومطبخه -على سبيل المثال- مثلما يصرف على الموبايل، إن لم يكن أكثر من واحد؟ * هناك تحول فى الطبيعة المصرية الأصيلة نحو اليونيفورم المحزن شكلاً ومضموناً سواء للمرأة أو للرجل، نحو نموذج أفقر بحجج أفقر مع كراهية علنية لكل مخالف.