لم تهدأ العاصفة بعد، ما زال الجميع تحت وطأة التأثر بحادث أليم، 17 ضحية، ومصابون، وكوبرى دائرى، وسيارة نقل محملة بالزلط، تفاصيل جديدة، لكنها قديمة ومعادة فى الوقت نفسه، ومسئولون لا يملون تكرار الوعود وتوزيع الاتهامات وتحليل الأسباب، حادث هذه المرة لم يمر سريعاً كغيره، بقى فى الذاكرة بعد أن عاجله القدر بحادثين آخرين، وقعا بعد ساعات منه فى أماكن مختلفة، ليؤكد الثلاثة أن نزيف الأسفلت فى مصر فى ديمومة لا نهاية لها. مسئول الطرق فى «الوادى الجديد»: أنا نفسى تعرضت للموت بسبب المطبات.. والمواطنون: أرواحنا أصبحت رخيصة أسماء كمال كانت واحدة من هؤلاء الذين وقعوا فى المأزق القاسى، وجدت نفسها أمام أحد أبشع حوادث الكوبرى الدائرى التى وقعت أخيراً، فوق «المنيب»، حيث أطاحت إحدى سيارات النقل الثقيل بسيارات أمامها، لتودى بحياة أكثر من 17 شخصاً، فضلاً عن عشرات الإصابات الجسدية والنفسية «بجد أبشع حاجة ممكن الواحد يشوفها فى حياته»، تتحدث الشابة التى لم تصدق نجاتها وطفلتها «طالعين طلعة دائرى المنيب لاقينا مقطورة معرفش طالعة منين أخدت ميكروباص بالناس اللى فيه، باللى واقفين على الدائرى فوق، كسرت الحديد ونزلت على موقف ميكروباصات المنيب، عمرى ما هنسى المشهد» كم من الأجساد التى بدأت تتساقط أمامها «اللى مات واللى اتهرس فوق وتحت الميكروباص والمقطورة، كانت شبه المفرمة، شبه واحد بيدوس على علبة كارتون هرسها، مناظر الناس جوّه وبره بشعة، الناس حواليا كانوا بيصوروا ويخبطوا كف على كف، ناس كانت بتجرى وناس كانت بتحاول تنزل تحت تشوف إيه اللى حصل، وناس بتحاول تنقذ، وناس زيى كتير واقفين متسمرين مش عارفين يروحوا فين وييجوا منين». منذ 3 أشهر، استقل مصطفى محمود الأوتوبيس المتجه من سوهاج إلى الإسكندرية، ساعات طويلة مرت، والشاب الثلاثينى يحاول أن يخدع أنفه الذى يشم رائحة البنزين المتسرب من السيارة، ينظر إلى السواق عله ينتبه للخطر وارتفاع درجة الحرارة، لكن لا يجد أى تفاعل، القدر وحده كان سبباً فى نجاة «مصطفى محمود» مدير بإحدى شركات الاتصالات، وبقية ركاب أوتوبيس الاتحاد العربى للنقل «سوبر جيت»، بعد أن شب حريق أسفل الأوتوبيس، الحادثة التى عادت إلى ذهنه من جديد بعد تكرار اسم أوتوبيس الاتحاد العربى فى حادث التصادم فى بنى سويف بين الأوتوبيس وسيارة محملة بالرخام، عندها تذكر الشاب الثلاثينى أنه منذ وقوع الحادث امتنع عن استقلال الأوتوبيس مرة أخرى بعد أن كان على وشك الموت متفحماً «أنا نزلت الاستراحة عادى ولولا كده كنا اتفحمنا، الأوتوبيس فضل ساعة ونصف بنحاول نطفيها، والأصعب من كده إننا فضلنا من الساعة 1 بعد منتصف الليل لحد 5 الفجر فى انتظار أوتوبيس جديد، حياتنا أصبحت لعبة فى يد المسئولين إذا كان فى الطرق أو فى النقل.. إحنا عبارة عن جثث ماشية على الأرض»، وصفه للمشهد القديم لا يختلف عن تفسيره للحادث الجديد، فبرغم أن حادث بنى سويف يعد تصادماً فإن «مصطفى» يؤكد أنه إهمال من الطرفين «الأوتوبيسات حالتها صعبة، رغم أن التذكرة ب100 جنيه، لكن الخدمة أقل منها، والكراسى متهالكة وسواقين مش مستوعبين الطريق وعدد الأرواح اللى معاهم، وماشيين بالبركة، ولازم إحنا كركاب عشان نحافظ على نفسنا نفحص السيارات اللى هنركبها، لأن فى بلدنا مفيش حاجة مضمونة إلا الموت»، الغضب الذى سيطر على نبرة «مصطفى» كان سببه تذكر شعوره بالموت، الأمر الذى أصابه ب«فوبيا» من الطرق التى يمر من عليها ليلاً ونهاراً، ولا يجد بدائل «لو قعدت فى البيت هصرف إزاى، وأكيد هيبقى فيه سبب تانى أموت بيه». من التصادم ببنى سويف إلى انقلاب سيارة ميكروباص على طريق الداخلة - الخارجة بالوادى الجديد، كانت الليلة التى تركت للأهالى ذكريات أليمة لن ينساها الجميع، ومن بينهم «كمال فؤاد» الذى اعتاد المرور من نفس الطريق الذى شهد أمس انقلاب سيارة ميكروباص ووفاة 5 وإصابة 14 آخرين، مؤكداً تكرار نفس الحادث يومياً ويكون هو معرضاً لواحد منها، فى كل مرة يجد نفس المشهد، سيارات إسعاف، رجال شرطة يتفقدون موقع الحادث ويتم رفع جثث الضحايا، ومن ثم تجف الدماء «بترجع ريما لعادتها القديمة» حسب وصفه، «فردية» هو التبرير الأبرز للمسئولين من المنيب لحادثى بنى سويف والوادى الجديد ينطلق المسئولون على اختلاف إداراتهم فى التبرير «أينما وجدت الكثافة وجدت الحوادث» هكذا يبرر العقيد مصطفى إبراهيم، مدير العمليات بالإدارة العامة للمرور، الحادث وغيره من الحوادث. «حادث بنى سويف كان قضاء وقدراً، والحوادث السابقة فردية، ولا ربط بينها وبين ضحايا الحادث الجديد» قالها أحمد إبراهيم، المتحدث باسم وزارة النقل، نافياً أى علاقة بين حادثة التصادم الذى حدث بين عربة محملة بالرخام مع أحد أوتوبيسات شركة الاتحاد العربى، مشيراً إلى أن الشركة نفسها صاحبة سمعة طيبة وتقدم خدمات على مستوى عال للركاب «الشركة دى بتروح سيناء فى عز المشكلات اللى البلد فيها، ولو فيه حادثة حصلت مش هنعمل عليها فيلم ونكبرها». المهندس مجدى الطماوى، مدير مديرية الطرق والنقل فى الوادى الجديد، أكد أن غالبية حوادث الطرق نصف أضرارها يقع على عاتق الحكومة، والنصف الآخر على قائد السيارة «أغلب الطرق السريعة عندنا فى مصر مخالفة لما بها من مطبات، وأنا نفسى كنت هتعرض للموت قبل كده، لكن لحد ما وزارة النقل تشد حيلها بنطلب من المواطن يخفف سرعته، ساعتها معدل الوفيات هيقل، وهتبقى الإصابات فى الحديد مش بشرية». بمزيج من الاستغراب والدهشة استقبل اللواء يسرى الروبى، خبير المرور الدولى والإنقاذ والتدخل السريع فى الحوادث بمنطقة الشرق الأوسط، الأسباب الرسمية المعلنة عن سر الحوادث العديدة فوق الكوبرى الدائرى وغيره من الطرق السريعة والعادية «السبب الحقيقى للحوادث هو إدارة الأمور على طريقة عُك وربك يفك، الكثافة المدَّعاة وهمية، والحقيقة أن الطرق تسع أضعاف سعتها الحالية، لكننا وعلى عكس الدول الإسكندنافية نرخص السيارات ونلقى بها فى الشارع دون أن نعرف أين سيتم ركنها. طرق تخلو من الأمان والسلامة، بحسب «الروبى»، الذى قال: «لقد نبهت أن الطرق العلوية فى مصر كالدائرى وأكتوبر وغيرها من تلك التى تعمل ومن تحتها طرق أخرى للسيارات يجب أن يكون بها مانع انزلاق للسيارات، حتى تمنع وقوع الكوارث إذا ما انحرفت سيارة عن مسارها واصطدمت بالسور»، يتحدث الخبير الدولى عن طريقتين لتصميم الطرق.