لم يعد أمامنا اختيار: الخروج من «شرنقة» التقليدية والتكرار، والدخول إلى عالم الإبداع وتجديد الأفكار.. أو مواصلة السقوط فى مستنقع الفشل والانتحار. حتى بدايتى «المسجوعة» تلك عفى عليها الزمن، وأصبحت مجرد «كتابة إكسبيرد» غير صالحة لأى قراءة عصرية أو صحية، وتلك هى أزمتنا الكبرى يا أبناء المهنة الكرام: نتحدث عن المستقبل بلغة وأفكار الماضى. نلعن ظلام المرحلة «المهببة» التى تعيشها صحافتنا المبجلة، ونسد عنها كل منافذ الضوء. نملأ الفضاء «ولولة» بأننا مهنة تتعرض ل«طعنات» تستهدف حق المواطن فى المعرفة، وفى حقيقة الحال أن السكين بأيدينا نحن، وليس بيد أحد سوانا. أنا آسف يا زميلى العزيز، لن أشترك معك فى «المناحة»، ولن أذهب معك لتقديم واجب العزاء فى السرادق المنصوب بشارع الصحافة القومية، ولن أشارك فى تشييع جثمان الصحافة الحزبية، ولن أهتف ب«ثورة الخوف» على الصحافة الخاصة الراقدة الآن فى غرفة العناية المركزة. لا يا زميلى العزيز، لسنا أمام نظام يريد قتل الصحافة والرقص على جثتها، فأنا وأنت من يقتل ويرقص فى نفس الوقت مذبوحاً من الألم. كيف؟. هناك ألف كيف وكيف، وألف دليل إدانة يقدمنى وإياك إلى حبل المشنقة بتهمة القتل العمد للمهنة مع سبق الإصرار والترصد، والحكم -مؤكد- سيصدر من أول جلسة، وإليك القليل من تلك الأدلة: - المواطن يعرف ب«حدث انفجار القنبلة» بعد وقوعه بلحظات من خانة «عاجل» بالقناة التليفزيونية، ويتابع تفاصيله من المحطة الإذاعية وهو يقود سيارته متجهاً إلى العمل، ويتعمق فى جميع تداعياته من المواقع الإلكترونية، ثم تخرج عليه صحافة الغد بمانشيت: «انفجار قنبلة فى شبرا الخيمة». أى هراء ذلك الذى نقدمه للناس. - انظر إلى صفحات الجرائد ستجدها متشابهة فى «الطبخة الصحفية» إلى حد التطابق «بسلاطاتها وبابا غنوجها»، مع تقديمها -كالعادة- مع العيش بالمسامير. وطبعاً يا زميلى العزيز أنت أدرى منى بالمسامير، وكله بما لا يخالف السياسة التحريرية، والنتيجة: «تخمة» فى عقل الصحفى والمواطن معاً، غير أن الأخير قرر مؤخراً أن يلجأ إلى «الدايت»، بينما نصر نحن على تقديم نفس الطبخة بنفس العيش والمسامير. - أنا آسف يا زميلى العزيز من جديد، اسمح لى أن أحرج نفسى وإياك أمام القارئ الناظر لنا باحترام (حتى الآن)، وأسألك: كم كتاباً قرأت، وأنت -من المفترض- المثقف النخبوى القائد للرأى العام فى هذا البلد المغلوب على جهله؟، ما آخر دورة تدريبية حصلت عليها من أجل صقل مهاراتك الصحفية؟، كم زميلاً يجلس إلى جوارك ويكتب كلمة «لكن» هكذا: «لاكن»، و«إن شاء الله» هكذا: «إنشاء الله». تلك أخطاء الإملاء، ولن أحدثك عن أخطاء النحو.. وخاصة التمييز، لأنه لم يعد هناك أى تمييز، و«جراب الديسك» ملىء بالعجب العجاب. - بمناسبة «الديسك» عزيزى القارئ، فهو ليس «مرضاً» كما تعتقد، وإنما «قسم أساسى» فى أى جريدة ولا تستطيع أن ترى صفحاتها المطبعة بدونه، ولكن يمكنك أن تعتبره -إن أردت أيضاً- مرضاً كسر ظهر الصحافة. محرر الديسك -ولا تتعجب إنها إرادة الله- مسئول عن إعادة صياغة الموضوعات الصحفية ووضع العناوين المناسبة لها، ومثل هذا المحرر غير موجود على طريقتنا فى أى دولة متقدمة صحفياً، لأن ألف باء صحافة أن يكون الصحفى «بيعرف يكتب»، غير أن واقعنا اكتفى بأن يكون الصحفى «بيعرف يفك الخط»، وذلك لأن المهنة -بتعبير أستاذنا محمد أبوكريشة- «لمت». أسمع الآن زملاء المهنة يهتفون من أعماق الأزمة: «كفاية فضايح». نعم، أضم صوتى إلى صوتكم، وأهتف أيضاً فى نقابة الصحفيين والمجلس الأعلى للصحافة وكل المهتمين بإنقاذ هذه المهنة من الموت المحقق: «كفاية فضايح»، وتعالوا نعيد ترتيب «بيت المهنة» من الداخل بعيداً عن الصراعات والمزايدات والبحث عن بطولات وهمية. تعالوا ننقذ أنفسنا قبل أن نقرأ نعى وفاة الصحافة فى جميع وسائل الإعلام.. إلا الصحافة نفسها.