بعد إشارة الرئيس إلى أن الدستور به مواد كتبت بنوايا حسنة وأن تلك النوايا الحسنة لا تصنع الدول، سادت المشهد الإعلامى هجمة غير عادية ممن ظنوا أن الرئيس يهاجم الدستور، وأنه غير راضٍ عنه، وتخيلوا أن ما يُرضى الرئيس، الذى انتخبه المصريون بأغلبية غير مسبوقة فى ظل ذلك الدستور، هو تلك الدعوة المحمومة إلى تعديله قبل أن يتم تفعيله!! وللأمانة والموضوعية، فإن الدستور به مواد خلافية تحتمل تفسيرات مختلفة، كما أن به مواد تحتاج إلى التعديل فى رأى كثيرين، وأنا منهم، لكن التسرّع فى الدعوة إلى تعديل مواد بعينها يراها بعض المؤيدين لتعديله مقيدة لصلاحيات الرئيس بالقياس إلى الصلاحيات التى نص عليها الدستور لمجلس النواب، وهى حالة غير معتادة فى تاريخ الدساتير فى مصر والعالم، بأن يتم تعديل دستور قبل أن يجرى تطبيقه، ولم تظهر مشكلاته فى التطبيق. ولعل تلك حكمة عدم النص على الرقابة السابقة على القوانين فى قانون المحكمة الدستورية العليا لإتاحة الفرصة لتطبيقها، ومن ثم يكون هناك منطق ومبرر لنظر ما قد يتقدّم به أصحاب المصلحة من طعون ضدها، وتكون المحكمة الدستورية العليا فى موقف يسمح لها النظر فى دستورية تلك القوانين. إن تفعيل الدستور واجب وطنى يحتم على الدولة المسارعة إلى تنفيذه، وذلك من خلال توجّه مجلس الوزراء بالأساس، وكذلك رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس النواب إلى التقدم بمشروعات قوانين تترجم ما تضمنه الدستور من نصوص إلى قوانين نافذة ونظم وإجراءات تفصل وتنظم قواعد العمل فى كل المجالات التى تعامل معها. ورغم مرور ما يقرب من عام ونصف على إقرار الدستور، فلم تبادر الحكومات التى تشكلت بعد إقراره إلى تفعيل الأمور التى أوجب الدستور أن تلتزم أو تتكفل أو تضمنها الدولة، رغم سيل التشريعات التى استصدرتها تلك الحكومات بقرارات بقوانين صدرت بقرارات من رئيس الجمهورية، دون حاجة فعلية إلى الإسراف فى استخدام سلطة الرئيس التشريعية فى غياب مجلس النواب، وحتى تلك القوانين لم تفعل، ومنها قانونا الكيانات الإرهابية ومكافحة الإرهاب!!! إن واجب ومسئولية الدولة الإفصاح عن كيفية الوفاء بكل ما نص عليه الدستور من حقوق تلتزم الدولة بكفالتها، والعمل على صيانتها وضمانها. وعلى سبيل المثال يجب أن تفصح عملياً عن كيفية وفائها بالحفاظ على حقوق العمال، وبناء علاقات عمل متوازنة بين طرفى العملية الإنتاجية، وكفالة سُبل التفاوض الجماعى وحماية العمال من مخاطر العمل، وتوفير شروط الأمن والسلامة والصحة المهنية، وحظر فصلهم تعسفياً، وأن تبادر الدولة إلى تعديل قانون المعاشات لضمان توفير معاش مناسب لصغار الفلاحين، والعمال الزراعيين والصيادين، والعمالة غير المنتظمة. من ناحية أخرى، فالدولة مطالبة بالإفصاح عن خطتها لتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعى والحيوانى، والإعلان عن نظام شراء المحاصيل الزراعية الأساسية بسعر مناسب يحقق هامش ربح للفلاح بالاتفاق مع الاتحادات والجمعيات الزراعية، لكن شيئاً من ذلك لم يتم!! وثمة مثال آخر فى مجال صيانة الحريات العامة، كان ضرورياً أن توضح الدولة إجراءات وضمانات تفعيل النص الدستورى بأن كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيّد حريته يجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ومنع تعذيبه أو ترهيبه وعدم إكراهه أو إيذائه بدنياً أو معنوياً. كما كان واجباً بنص الدستور أن توضح الدولة التزامها بأن تكون أماكن الحجز أو الحبس لائقة إنسانياً وصحياً، وأن تحظر تشغيل الطفل قبل تجاوزه سن إتمام التعليم الأساسى أو تشغيله فى الأعمال التى تعرّضه للخطر. يجب على الدولة ومجلس النواب الذى ينتظره الشعب لتفعيل الدستور وليس تعديله، تقنين مواده التى يحظر فيها كل ما ينافى كرامة الإنسان، أو الاتجار بأعضاء الإنسان أو التهجير القسرى التعسُّفى للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، مع تأكيد أن المهمة الأولى لإعادة بناء الوطن هى القضاء على الإرهاب المادى والفكرى كما نص الدستور على ذلك، وكما أوجب على أول مجلس للنواب يتم انتخابه بعد العمل به أن يصدر فى أول دور انعقاد له قانون للعدالة الانتقالية وقوانين أخرى نصّت عليها مواد الأحكام الانتقالية!!! كذلك فإنه كان على الدولة ضمان أموال التأمينات والمعاشات، وسلامة إجراءات الاستفتاءات والانتخابات وحيدتها ونزاهتها، وتنفيذ الالتزام بالحد الأدنى لمعدلات الإنفاق الحكومى على التعليم، والتعليم العالى، والصحة، والبحث العلمى، وبيان إجراءات تقنين إهداء أو مبادلة الآثار، وحظر فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها بأى وجه من الوجوه. كان يجب قبل شن هجمة استباقية غير مبررة لتعديل الدستور من بعض أصحاب المصالح الضيقة، أن توضح الأحزاب والقوى السياسية الوطنية ومنظمات المجتمع المدنى والمفكرين وقادة الرأى أفكارها ومقترحاتها فى سبيل التفعيل الصحيح للدستور، كى يكون قوة فاعلة فى بناء المستقبل المصرى. وسيكون واجباً على الحكومة المقبلة بعد الانتخابات، السعى لتنفيذ مواد الدستور، حيث لن يمكن عملياً أن تقوم الحكومة الجديدة التى تم تشكيلها منذ يومين بهذا الواجب، نظراً إلى محدودية الفترة المتاحة لها قبل تشكيل مجلس النواب. سيكون على الحكومة المقبلة إعداد مشروعات قوانين تتقدم بها إلى مجلس النواب، كذلك إعداد نظم وإجراءات تنفيذية للأمور التى حدد الدستور أنها تقع فى نطاق السلطة التنفيذية، وقد تصدر بموجب قرارات يصدرها رئيس الوزراء أو قد تطلب استصدار قرارات من رئيس الجمهورية، وأيضاً تطوير وتعديل اللوائح والإجراءات الإدارية المعمول بها فى أجهزة الدولة التنفيذية، بما يتوافق مع نصوص الدستور. إن الدستور حدد فى مادته رقم 226 الطريق إلى تعديله، وعلى من يدعون إلى التعديل دراسة تلك المادة والعمل بمقتضاها، إن كانوا يدركون ماهية الدستور!!! وختاماً، دستور يا أسيادنا!!!