من المؤلم غاية الإيلام لك ولى، أننا نعرف أن مجزرة الأطفال فى أسيوط لن تكون الحادثة الأخيرة، على الأقل فى المدى المنظور. فنحن نعرف أن كل الظروف الموضوعية لاستمرار الكوارث قائمة. ونحن ندرك، ونتمنى ألا يحدث، أن المزيد من الدماء سوف تراق على الأسفلت وعلى قضبان السكك الحديدية وربما نفقد المزيد من الضحايا فى مياه البحر أو مياه النيل، فهكذا كان الحال على مدى العقدين الأخيرين، فماذا فعلنا لوقف مسلسل الكوارث؟ نحن بالقطع لم نفعل شيئاً ذا بال يتناسب مع حجم المشكلة ونتائجها الكارثية المتتالية، ويمكنك أن تعزو ذلك، ولك كل الحق، إلى الفساد الإدارى لجهاز الدولة المستمر منذ عقود، ولا يزال، فى استنزاف الدولة وتدميرها لمصالح شخصية وشللية. لكن الفساد وحده لا يبرر لى هذه الحالة من التبلد النفسى الذى أصابنا تجاه الأخطار، فكيف يمكننا أن نفسر هذا التبلد الشعورى الذى أصابنا عشية مجزرة أطفال أسيوط؟، فقد جزعنا لوهلة عندما سمعنا الخبر ثم تحلّقنا حول شاشات التلفزيون، لا لمتابعة هذا الحدث الجلل الذى ما كان له أن يمر دون أن تهتز له الأمة بكاملها، وإنما لمتابعة ماتش كرة قدم!، ليس هذا فحسب بل إننا انطلقنا فى الشوارع للاحتفال بالفوز العظيم. وكيف يمكننا تفسير هذه الحالة من السلوك الانتحارى اليومى الذى نمارسه جميعاً فى الشارع كل يوم، فنحن كمشاة نتحرك فى الشوارع فى أى مكان وفى كل اتجاه، ونقفز على الأسوار ونعدو خلف الأتوبيسات والميكروباصات، ونحن قائدى السيارات من كل الأنواع، نتدافع فى معارك حربية يومية نستخدم فيها السيارة كسلاح قتل فعال، يندفع بسرعة هائلة فى أضيق مكان وأكثرها ازدحاماً، ويتوقف أينما شاء وقتما شاء. وأظن أن التبلد الشعورى والسلوك الانتحارى يعبران عن فقدان الإحساس بقدسية الحياة، التى هى أساس العمق الروحى فى كافة الأديان، بل وفى الفلسفات الوضعية أيضاً، فمن الواضح أن مجتمعنا، وعلى الرغم من مظاهر التدين الكثيفة التى تنتشر فيه، أصبح يعانى خواء روحياً عميقاً باعد بينه وبين غريزة الحياة، وكيف يمكن لتديننا أن يغذى أرواحنا بالحياة إذا كانت لدينا أبواق دينية تعظ بالكراهية وتتفاخر بالعداء، بل وتتبرأ لسامعيها من تهمة القبول والحب للآخرين المختلفين معهم فى الدين أو الرأى. من الواضح إذن أننا نعانى من خلل اجتماعى خطير وأن المؤسسات الثقافية والسياسية والدينية المنتشرة فى المجتمع لا تساهم عن وعى فى فهم الخلل أو محاولة علاجه، ولا أتوقع لها ذلك، فالواقع أن هذه المؤسسات جزء من حالة التيه الثقافى والتشتت الفكرى الذى سيطر على بلدنا لعقود وكان السبب الرئيس لما نعانى منه. قد يبدو الأمر وكأننا نعيش فى النفق المظلم لا نجد لنا طريقاً للخروج؛ لكننى على يقين أننا نملك الطاقة الروحية الحقيقية التى تجلت على مدى 18 يوماً فى ميدان التحرير إبان الثورة، وعبرت عن ما هو كامن فى المجتمع المصرى من رفض للخواء الروحى والتدين الشكلى والرغبة العارمة فى الخلاص والمصالحة مع الحياة، فالخلاص مرهون بانتصار الثورة على تجار الموت ودعاته.