... لم تعد توجد أى جدوى من تكرار تعداد أخطاء حكامنا الأفاضل، خصوصا بعد أن أصبحت الأخطاء أكثر من أن تُعد، كما لم تعد هناك جدوى من الجهد المبذول لكشف المستور، إذْ يبدو أن كثيرا من المسؤولين قد اعتادوا أن يقولوا ما شاؤوا.. كيف شاؤوا، أينما شاؤوا، ثم يتراجعون عمّا قالوه بنفس الثقة الواثقة، والنبرة المؤكدة، ويقولون عكسه. ... إن بلدنا لا ينقصها أصحاب الرأى والفكر، إن كثيرا مما يكتب ويقال قابل للتطبيق، لكن الجهة المنوطة بوضع أى رأى موضع التطبيق، هى السلطة المسؤولة عن تسيير حياتنا، لا يهمها إلا ما يهمها... وهى لا تسمع إلا نفسها.. لماذا هكذا؟ *** إن الذى يمنع... الكوارث، هو أحد أمور ثلاثة: إما «دولة عصرية قوية»، وإما «حس حضارى عام»، وإما «وعى دينى» يهدى ويردع، بل دعونى أضف مؤكدا: بل كل ذلك. أولا: الدولة العصرية: هى دولة محكمة القوانين، حاضرة الهيبة، معلنة الأداء، راسخة العدل، مفتوحة الصدر، تقول ما تفعل، وتفعل ما تقول. دولة.... يخاف فيها عامل الصيانة من المحاسبة والمراقبة والجزاء، بنفس القدر الذى يعمل به الوزير المختص حسابا لكل ما هو ضمن مسؤوليته، من أول أداء أصغر عامل نظافة، حتى قرارات أقدم نائب له. ثانيا: الحس الحضارى: تمتنع الكوارث أيضا حين يشارك معظم الناس فى وعى عام يواكب العصر، من حيث وجود قيم راقية مسؤولة مشاركة داخل كل أو معظم أفراد شعب ما.. الناس تتصوّر أن القيم الحضارية تقاس بالتطاول فى البنيان، أو بأعمال الفن الخالدة، أو إنجازات التكنولوجيا العملاقة.. إن الحضارة بالأساس تتمثل فى نوع راق من الوجود البشرى، نوع يظهر فى التصرفات الصغيرة من تفاصيل السلوك الفردى والجماعى، نوع يفرض نفسه داخل البيوت، بين المرء ونفسه، كما يظهر أمام الناس فى الشارع والقطار، والمدرسة، ودور السينما.. يشعر فيه كل واحد أنه فرد فى مجتمع، من بشر حوله، هم لازمون لوجوده رغم اختلافه عنهم، كما أنه لازم لتكاملهم. هذا الحس الحضارى لا يتحقق بخطبة زعيم أو من خلال تعليمات واعظ، إنه نتاج تراكم نهضة تربوية إبداعية طويلة الأجل. إن تلقائية الناس وحدها، أو حسن نياتهم، لا تكفى لتنمية هذا الحس دون مسؤولية السلطة. سلوك الدولة وبرامجها ضرورة لتحقيق مثل هذه الحال. ثالثا: الوعى الإيمانى: يمكن أن يسهم فى منع الكوارث حين نعيد للأذهان معانى أخرى للإيمان والتدين غير توظيف الدين فى الهروب أو التأجيل، أو فى مجرد الترهيب والترغيب، ناهيك بتوظيف الدين أيضا لجمع الأصوات أو القتل أو التكفير. إن الدين الصحيح لا يمكن أن يقتصر على علاقة سرية بين العبد وربه، ولا على طاعة فقهية تلزم بأداء ما يقوله الفقهاء حرفيا دون نبض أو عمق أو تعمير أو إبداع. إن للأداء الدينى-الإيمانى السليم دور حضارى (وأحيانا ثورى) لا يمكن إنكاره، ناهيك بالاستغناء عنه، خصوصا فى مصر التى بنيت حضارتها وإنجازاتها على تاريخ رائع من التدين والتوحيد والحوار حولهما. المفروض أن من أهم وظائف الإيمان السليم أن يبنى منظومة إيجابية داخل وعى المؤمن، تتجلى فى سلوكه اليومى بشكل يعمر الأرض ويرتقى بالإنسان، ويمنع الضرر والضرار. *** الاعتذار غير المقبول كل شىء يصح فيه الاعتذار إلا الموت. لا أحد يقتل آخر ثم يقول له فى قبره «أنا آسف»!!! الاعتذار الذى يحل محل التعلّم وتغيير السلوك هو جريمة أكبر من الجرم الأصلى. إنه يريح الجانى وقد يؤكد السلوك الخطر دون وعى. إنه قد يعفى المعتذر من أن يتعلم من خلال ألمه الواعى بجسامة فعلته وحجم جريمته. لا عذر على إزهاق روح بشرية، ولا تعويض على إنهاء عشوائى لحياة إنسان لمجرد أن مسؤولا كان مشغولا بغير مسؤوليته. الاعتذار الحقيقى هو العمل على إزالة أسباب هلاك البشر، بالصدفة، أو بالإهمال أو بالقهر، أو بالاستغلال، أو بالانسحاب (1967). .. إن هذا الشعب الطيب العظيم اعتاد أن يغفر لكل مسؤول أضرّه، أو حتى أذلّه، من أعلى سلطة إلى أقل عامل مهمل، علاقتنا بالحياة والموت هى علاقة أعرق وأطيب، لكنْ أن يستمرئ هذه الطيبة مسؤول يكذب، أو عامل يهمل، أو موظف يرتشى، فهذا جرمٌ لا نغفره. *** إن مقارنة بين حدة التفاعل للموت مسار النسيان فالتبلد فالغواية بملهاة الحياة المغتربة، لا بد أن تنبهنا إلى أنه إن جاز لنا ذلك أفرادا، فهو غير جائز لمسؤول تسبب فى موت عشرات الآلاف فى حرب لم تقم أصلا (67)، أو مسؤول آخر تسبب فى إزهاق أرواح المئات بتواكل رخو، أو بله عشوائى. ونظام حكم غير معروفة قواعده، أو مدى عمره. أتساءل عن فائدة كل ما قيل.. وأكثره صواب، ومؤلم، ولا أجد جوابا، أعرف أننى كثير التساؤل أمام عظة الموت وكيف تتسرب بمرور الوقت، والذبذبة: لماذا الوُلُوجُ؟ الخُروجُ؟ الدُّوار؟ المَقالٌ؟ الكلامُ المعادُ؟ .... ومن ذا يطوّقُ جِيدَ النمورِ الجياعِ بناقوسِ درء الخطر؟ كيف تستطيب حكومتنا العمى عن حقيقة الجارى وعن آلام وجوع الناس، وقد عجزنا نحن أن نعمى عن حقيقة هذا النظام ومخاطر استمراره، وهو لا يريد أن يتعلم، أو يتراجع، أو يستيقظ، حتى أمام دروس الموت الرهيب؟ القضية هى قضية نظام كامل يسير بالقصور الذاتى، وهو مطمئن إلى أن أحدا لن يحاسبه. تحذير إذا جاز، لأهل السلطة أن يستهينوا بمثل هذا الكلام، وما هو أحسن منه مئة مرّة مما يكتبه غيرى، إذا جاز ذلك، قبل (25 يناير 2011) وما تلاه، فهذا غير جائز حتما بعد هذا التاريخ وما ترتب عليه من أحداث: مما يحدث فى فلسطين، وأفغانستان، وما ينتظر حدوثه فى العراق ومصر وسائر الدنيا. كلٌّ فى دوره. هذا إنذار نهائى. لست أدرى كيف!!! صدق أو لا تصدق كل هذا الكلام الذى ورد سالفا هو مقتطفات من مقال قديم كتبته قبل عشر سنوات ل«الوفد» بتاريخ 14-3-2002، (ويمكن الرجوع إليه للتأكد!). التغيير الوحيد هو فى الفقرة الأخيرة، فقد كان التاريخ فى المقال الأول هو 11سبتمير 2001 إلى 25 يناير 2011. رأيت كيف؟