حالة من الهدوء تسيطر على أرصفة وجه قبلى بالمحطة، الشاشة الإلكترونية تعلن عن قيام الرحلات إلى محافظات الوجه القبلى فى موعدها، على رصيف 10 و11 حضرت القطارات وغاب الركاب فى مشهد نادر الحدوث بمحطة مصر، التزاحم على شباك حجز التذاكر غير موجود. مجموعة من المواطنين حضروا إلى مكتب ناظر المحطة يسألونه عن مواعيد القطارات المتجهة إلى أسيوط وسوهاج، هل هى توقفت بسبب حادث قطار أسيوط أم لا. لكن لا يوجد من يهدئ من روعهم أو يجيبهم.المكتب خالٍ تماماً إلا من جهاز تليفون قديم يملّ من الرنين. ناظر المحطة خرج ولم يعد، المكتب خالٍ تماماً من أى موظف. المواطنون أمام المكتب يقولون إنه يتهرب من الركاب. القطارات تتحرك فى اتجاه واحد ناحية الصعيد رغم علم سائقيها بأنهم معرضون للتوقف طويلاً على قضبان السكك الحديدية انتظاراً لفتح الطريق بمنفلوط. على رصيف 11 وقف قطار رقم 998، الإسبانى مكيف الهواء. بالأمس كان هذا القطار يفيض بالركاب عن آخره لكنهم عزفوا عن ركوبه يوم حادثة قطار أسيوط بسبب قطع الطريق. هجروا القطارات إلى الميكروباصات. قبل موعد القطار بنصف ساعة كانت هناك عربات كاملة من القطار خالية تماماً من الركاب. لكن مع اقتراب موعد انطلاق الرحلة فى السادسة مساءً حضر عدد قليل من الركاب على استحياء لم يستطيعوا كسر حالة الهدوء التى فرضت نفسها على رحلات اليوم. فى منتصف عربة رقم 4 جلست منى جرجس 50 سنة من أسيوط برفقة ابنتها منتظرة انطلاق الرحلة. جاءت إلى القاهرة قادمة من أسيوط صباحاً. انطلقت من هناك قبل ساعة من وقوع كارثة مقتل 50 تلميذاً بمزلقان السكة الحديد. استقلت قطار السادسة صباحاً من أسيوط. ظنت عائلتها أنها بقطار رقم 165 صاحب الكارثة. لكنها كانت فى الموعد السابق. تخشى السيدة من غلق الطريق أمام حركة القطارات المتجهة إلى أسيوط وسوهاج لكنها استسلمت للظروف، إنها رحلة طويلة لا تملك إلا الانتظار. بعدها بدقائق يحضر شاب فى منتصف العشرينات ويطمئن الجالسين بأن عامل البوفيه أخبره بأن طريق القطارات قد تم فتحه مجدداً وأن الأزمة تقع بالخط المتجه للقاهرة فقط هذا الكلام فنده زميل آخر له لأن رئيس القطار قال إن الطريق ما زال مغلقاً. معنى ذلك أنهم سيظلون محاصرين بالقطار لا يتحركون منه حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً. مصطفى السيد مضيف العربة يعمل بالسكة الحديد منذ 17 عاماً من المنيا، خرج من بيته فجراً، عرف بالحادث الأليم فى الثامنة صباحاً عندما هاتفه زميل له بالسكة الحديد حدثه فيها عن جثث الأطفال التى تحولت إلى أشلاء وذابت ملامحها تحت عجلات القطار، قال الرجل: نعانى دائماً من اقتحام الأفراد والسيارات النقل والأبقار والحيوانات للمزلقانات أثناء مرور القطارات منها. وتابع لم يأتِ أى قطار من الصعيد بعد الواحدة ظهراً، جميعها متوقفة قبل مكان الحادث علمت ذلك باستراحة الورش قبل دخول القطار للمحطة. يعترف الرجل بأنه يخترق بنفسه أسلاك المزلقانات حين مرور القطارات عندما يستقل دراجته البخارية ببلدته، مؤكداً أن سلوكه هذا مع غيره من المواطنين يعرّض حياتهم للخطر. شاب عشرينى يسأل الرجل عن مواعيد انطلاق الرحلات وأرقامها فيجيبه «اسأل ناظر المحطة» فيذهب إليه ولا يجده أيضاً فيجلس الشاب على دكك خشبية ويسلم أمره لله.سائق القطار محمد عواد يستعد لانطلاق الرحلة، ويؤذن له بالتحرك. من خلال دق أجراس الرصيف مع صفارة الإنذار. ركاب كثيرون يقتربون من الرجل يسألونه عن جهة رحلته وعن المحطات التى سوف يقف بها. فيجيبهم برفق. جرار القطار من طراز «هنشى» ألمانى الصنع. وهو نفس الطراز الذى قتل تلاميذ المدرسة صباحاً. وهو أكثر الأنواع عدداً وشهرة بالسكة الحديد. يفضله السائقون كثيراً لأنه «عِشرة عمر». يعمل عواد بالسكة الحديد منذ ربع قرن من الزمان، قالها بفخر. كتب الله له السلامة طيلة هذه الفترة فلم يصطدم بقطار أو سيارة نقل أو أجرة أو أتوبيس مدرسى فى مزلقان. أبدى الرجل خوفه من العمل هذا اليوم، الطريق أمامه مجهول قد يبيت فى القطار يوماً أو بعض يوم إن استمر غلق الطريق بأسيوط. لم تبدد القطارات المتجهة ناحية الصعيد خوفه لأنه يتأكد من تخزينها بالطريق أمامه. يقول عواد: بنى سويف آخر محطة بخط الصعيد يوجد بها مزلقانات إلكترونية وباقى المزلقانات بطول هذا الخط يدوية إلا ما رحم ربى. يتحرك الرجل أخيراً إلى المجهول يقابله سيمافورات مفتوحة يعبر كوبرى إمبابة الحديدى بعد الكوبرى يوجد عدد من المزلقانات الكبيرة التى لا تكف عن إصدار صفارات الإنذار مثل مزلقان أرض اللواء. بعد 20 دقيقة من انطلاقه من محطة مصر بميدان رمسيس يتوقف القطار ثانية فى محطة الجيزة. وما حدث فى المحطة الأم حدث هنا بالجيزة حيث قل عدد الركاب الذين استقلوا القطار من المحطة. وبدت أكثر هدوءًا من ذى قبل. خلال سير القطار يجلس إلى جوار سائق القطار محمد عواد مساعد بدرجة سائق يعمل بالسكة الحديد منذ 23 سنة اسمه صلاح محمد عبدالنبى. أجبرته الإدارة على العمل كمساعد بعد أن كان سائق قطار حيث لم تستقبل هيئة السكة الحديد أى تعيينات جديدة منذ عام 2006 فى قيادة القطارات حسب قول عبدالنبى، وأشار إلى وجود عجز كبير فى عدد سائقى القطارات حيث لم يعوض غياب من خرجوا إلى المعاش معينون جدد بالإضافة إلى من تمت ترقيتهم. يؤيد بشدة استقالة رئيس هيئة السكة الحديد بسبب إدارته السيئة لهذا المرفق الحيوى وتسببه فى وجود أعطال كثيرة بالجرارات لعدم توفير قطع غيار لها. وهو ما اضطر الهيئة إلى توقيف عدد من الجرارات وتركيب بعض أجزائها كقطع غيار لجرارات أخرى.يقول: منذ أيام لم يتوقف القطار بمحطة إيتاى البارود بسبب تعطل جهاز «يد الباكم» وهو الذى يتحكم فى جميع عربات القطار ويوقفها تماماً. ومن حسن حظنا عدم وجود مزلقان أمامنا وقتئذ وإلا لحدثت كارثة مروعة، صيانة الجرارات لا تتم بشكل جيد. يأتى الجرار أحياناً من أسوان إلى الإسكندرية بدون عمل صيانة حقيقية له، يكتفون بوضع مياه وسولار به. يشكو من سوء حالة السيمافورات ويؤكد أن إشاراتها أحياناً غير صحيحة مثل إشارة الوسط التى تكون غالباً عكس إشارة المسافة. مما يضطرنا إلى التوقف طويلاً حتى التحقق من الأمر وعند الاتصال لاسلكياً بالملاحظ يخبرنا عن احتمالية وجود عيب طارئ «تعليق سلك» أو «السلك مشدود». ويتابع عبدالنبى إذا حدث عطل بالسيمافور فإنه بإمكان ملاحظ البلوك الجرى بأقصى سرعة تجاه القطار على أن يبتعد أكبر مسافة ممكنة ويضع كبسولات ليخبرنا عن وجود خطر أمامنا عندئذ سنتوقف فى الحال لكن إذا كان القطار يسير بسرعة 120 كيلومتراً فى الساعة فإنه لا يستطيع الوقوف تماما إلا بعد 2 كيلومتر، لماذا لا يتم توفير أجهزة محمول أو لاسلكى لملاحظى البلوكات يتم التواصل به معنا. كلما اقترب القطار من الصعيد زاد الخوف من توقفه فى أى لحظة، وهو ما حدث لاحقاً.