صديقنا ارتدى ثوب العاشقين، وخرقة الزاهدين، وسلك طريق الهالكين، ودرب التائهين، يضل صاحبنا إذا أصابه وجع الحنين.. سفره بلا عودة، ورحلته بلا إياب. صاحبنا يقف على الأبواب، ليجود له البخلاء ببعض الكذب. قال: تعبت، وأرهقتنى وحشة الطريق، وأضنانى السفر بلا رفيق، وثقل الهم على قلبى الجريح. ألديك شىء عن الهوى؟ عن الحب والجوى، يخفف عنى وعن خاطرى محنة الرقيق. قلت له: ابحث عن المحبين فى تاريخ الهجر والضنى، عن الهائمين فى دروب العشق والجوى، هؤلاء مسافرون إلى المحبوب بلا متاع. أرأيت أشقى ممن امتطى راحلته ومضى، وإذا سألته إلى أين الرحيل قال راحل إلى مجهولة الاسم والعنوان!! أيها الحبيب المجهول، مسافرون إليك، راحلون إلى ديارك، واقفون على بابك، لكن الهوى لا يفتح الأبواب. المبتلون بالعشق يا صاحبى لا يبرأون إلا بالموت. سألوا رجلاً: ممن؟ قال: من قوم إذا أحبوا ماتوا!! قالوا عنهم: يحبون، يعشقون، يصومون، يشحبون، يصابون بحمى العاشقين فيموتون. العشق عند قوم بلاء كالموت، يعزون فيه الميت، ويبكون فيه على الجريح. قال حكماء الهند قديماً: إذا ظهر العشق عندنا فى رجل أو امرأة، غدونا إلى أهله بالتعزية. يا صاحبى: دموع المحبين دواء، وذل المتيمين رضاء، والموت للعاشقين شفاء. يقول الأصمعى: بينما كنت أسير فى البادية، إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت: أيا معشر العشاق بالله خبروا ... إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع؟ فكتب له الأصمعى تحته البيت التالى: يدارى هواه ثم يكتم سره ... ويخشع فى كل الأمور ويخضع. يقول الأصمعى: ثم عدت فى اليوم التالى فوجدت مكتوباً تحته هذا البيت: وكيف يدارى والهوى قاتل الفتى ... وفى كل يوم قلبه يتقطع. فكتب له الأصمعى تحته البيت التالى: إذا لم يجد الفتى صبراً لكتمان سره ... فليس له شىء سوى الموت ينفع. يقول الأصمعى: فعدت فى اليوم الثالث، فوجدت شاباً ملقى تحت الحجر ميتاً، ومكتوب تحته هذان البيتان: سمعنا وأطعنا ثم متنا فبلغوا ... سلامى إلى من كان بالوصل يمنع هنيئاً لأرباب النعيم نعيمهم ... وللعاشق المسكين ما يتجرع. ماذا جنى قتيلنا المسكين من العشق، ولماذا يتجرع المحبون الضنى؟ أسمعت يوماً عن معشوقة كتبت فى الهوى شعراً، أو هامت فى الدروب على وجهها عشقاً؟ ما كل هذا الذل الذى يجنيه العاشقون؟ ولولا الهوى ما ذل فى الأرض عاشق، ولكن عزيز العاشقين ذليل. العشق يا صاحى هوان. أرايت مثل أبوفراس الحمدانى فى هوانه، يقف على بابها يستجدى منها الكذب. تسائلنى: «منْ أنتَ؟»، وهى عليمةٌ ... وَهَلْ بِفَتى مِثْلى عَلى حَالِهِ نُكرُ؟ فقلتُ، كما شاءتْ، وشاءَ لها الهوى: قَتِيلُكِ! قالَتْ: أيّهُُمْ؟ فهُمُ كُثرُ. أمواتنا من الرجال فى العشق كثر كما قالت لأبى فراس. هذان قيسان ماتا من العشق نبدأ بأولهما، قيس بن الملوح مجنون ليلى، فى نهاية درب العشق هام على وجهه مجنوناً ينشد الأشعار بين الوحوش فى البرارى، يراه الناس فى الشام ويراه البعض فى الحجاز. نصحوه أن يذهب إلى الكعبة ويتعلق بأستارها ويدعو ربه أن يبرأ من عشق ليلى. تعلق صاحبنا بأستار الكعبة وأنشد: «اللهم زدنى لليلى حباً وبها كلفاً ... لا تُنسنى ذكرها أبداً». صاحبنا ذهب يتداوى بليلى عن ليلى، كمن يتداوى شارب الخمر بالخمر. وثانى القيسين، قيس بن ذريح مجنون لبنى، أخو الإمام الحسين بن على فى الرضاعة، أم قيس أرضعت الاثنين معاً، وتوسط له بالزواج عند أهل لبنى دون أهله لرفضهم الزواج منها. يتزوجان اثنى عشر عاماً، يقاطعه أهله حتى يطلقها. عند رحيلها إلى أهلها رفض أهلها نظرة الوداع وأنشد المسكين: بتُّ والهم يا لبينى ضجيعى ... وجرت مذ نأيت عنى دموعى وتنفست إذ ذكرتك حتى زالت ... اليوم عن فؤادى ضلوعى يا لبنى فدتك نفسى وأهلى ... هل لدهر مضى لنا من رجوع كانت نهاية العاشق المسكين، ميتاً وحيداً على أحجار المقابر، كادت الكلاب الجائعة تنهش قلبه العليل، فحملوه إلى أهله. وماذا عن كرامة المحبين. هل رأيت ذلاً أكبر من أن يُنسب العاشق إلى معشوقته، هذا جميل بثينة ينسى التاريخ أباه وعشيرته وينسبه إلى المحبوب، حرموه منها، فهام بحبها دهراً. حتى فى لحظات احتضاره ينشد حضوره قصة حبها ويقول: لَقَد ذَرَفَت عَينى وَطالَ سُفوحُها ... وأَصبَحَ مِن نَفسى سَقيماً صَحيحُها أَلا لَيتَنا نَحيا جَميعاً وَإِن نَمُت ... يُجاوِرُ فى المَوتى ضَريحى ضَريحُها يا صديقى العاشق، على رسلك، وهدِّئ من روعك، واحفظ قلبك سليماً معافى، ومت كريماً وسط أهلك، ولا تخرج من دارك فيقل العاشقات من قدرك، ولا تغرنك ابتسامة أنثى أو دلالها، فالعاشقون فى حياتهن كثر. طريق العشق يا صديقى أكذوبة الصادقين، وهوس العقلاء، ورحلة الراحلين، وطعام المحرومين، ولباس المساكين. دعك يا صديقى من البحث عنه، لكن إذا أتتك عاشقة، ومن الوجد تنشدك أبيات الهوى، فاجعل فى القلب باباً إذا عاودك الحنين للعود فهو أحمد!! إهداء إلى الصديق العاشق والكاتب السيد الحرانى.. إياك من العشق، فيه سم قاتل!!