مرّت شهور قليلة.. وبدأ طوفان الأمل ينحسر شيئاً فشيئاً.. وبَدَا الملايين من الشباب النبيل الذى خرج لأجل الحاضر والمستقبل.. مُحبطاً بشأن الحاضر ومفزوعاً بشأن المستقبل.. فقد مضت تداعيات ثورة 25 يناير فى طريق غير الذى أعلنته ونقيض الذى أرادته. كانت جماعة الإخوان المسلمين جاهزةً بالتنظيم فى الداخل والتأييد فى الخارج، وكانت القوى المدنية غير جاهزة بما يكفى للتوازن أو ضبط المسار.. وفَقَدَت الثورة معالمَ الطريق. بدأ كثيرون يتحدثون عن «اللامخرج»، وعن «لعبة الدومينو» التى أُغلِقت بإحكام.. وعن الانهيار التدريجى للبلاد. وكان الطرف الآخر يحذّر من الوقوف فى وجه منحنى الهبوط لأن البديل هو الفوضى! لقد عادت ثنائية «مبارك» من جديد: «أنا أو الفوضى».. «أنا أو الدماء». ■ ■ كان المتشددون الذين استثمروا أجواء الركود الحضارى فى مصر.. قد بدأوا فى عملية منظمة لتغيير الشخصية والهوية، وتعديل الصورة التاريخية للدولة المصرية.. مضوا فى طريق «اللادولة» ولكن الشعب العريق مضى ليوقف الطريق.. وليصحح المسار.. وليدفع العربة التى وصلت إلى حافة الهاوية عن السقوط. ■ ■ على نحوْ مقولات «توفيق الحكيم» كانت ثورة 25 يناير 2011 بمثابة «عودة الروح» وجاءت ثورة 30 يونيو 2013 بمثابة «عودة الوعى». كانت ثورة 30 يونيو تحريراً لثورة 25 يناير من الاختطاف والانحراف.. وكان ثوار يونيو نموذجاً فريداً فى التاريخ.. ذلك أنهم نجحوا فيما فشلت فيه شعوب أوروبا حين حكمت الفاشية وسيطر الاستبداد. ■ ■ فوجئ المصريون بحجم العداء الإعلامى الغربى لثورة يونيو.. واصطفاف صحف ومحطات غربية فى جانب «نظام مرسى» ووصف الثورة ب«الانقلاب». يتشكك المصريون فى نوايا الغرب، ويصيبهم الذهول من الإطراء الغربى للرئيس السابق «محمد مرسى» دون إدراك لحجم المأساة التى دفع إليها البلاد. ربما يدفع المصريون علم السياسة إلى إعادة قراءة وتعريف النظرية الديمقراطية.. ذلك أن علم السياسة لا يجيب عن سؤال: ما العمل لو وصلت قوة غير ديمقراطية إلى السلطة بطريق الديمقراطية، ثم بدأت بتدمير قواعد اللعبة والعبث بالمصلحة الوطنية أو الأمن القومى للبلاد؟ لقد فشل الساسة الألمان فى زمن جمهورية «فاليمار» فى الإجابة.. وكانت النتيجة وصول «هتلر» إلى السلطة.. ولم يخرج إلا مع خروج ألمانيا فى دولتين تعيشان خارج الحضارة المعاصرة! تنتسب «جمهورية فاليمار» إلى مدينة فاليمار وسط ألمانيا، وقد مكثت من عام 1919 وحتى عام 1933.. ويصفها باحثو السياسة بأنها كانت نموذجاً مثالياً للديمقراطية الفاشلة.. حيث انتهت إلى النازية و«عصر هتلر» ونهاية كل شىء! ■ ■ ثمّة نموذج يجدُر بالنقاش فى هذا السياق هو نموذج الرئيس الأمريكى الحادى والثلاثين «هربرت روفر» الذى حكم الولاياتالمتحدة من عام 1929 وحتى عام 1933. كان الرئيس «روفر» أيديولوجياً متشدداً، وكان فاقداً للقدرة على الإدارة والسلطة.. محدود الرؤية فى السياسة والاقتصاد. كل ما كان يعرفه «روفر» هو حفنة ألفاظ وعبارات فى الرأسمالية المتطرفة.. لا يريد أن يسمع غيرها. ما إن تولى الرئيس الفاشل «هربرت روفر» الرئاسة حتى بدأت الأزمة الاقتصادية الأمريكية.. وقد فشل «روفر».. «غير المؤهل» والذى جاء عبر الصناديق فى انتخابات ديمقراطية، فى فهم الأزمة، وعلى ضعف الفهم كان ضعف الأداء.. وزادت الأمة اختناقاً و«روفر» لا يزال يكرر نفس العبارات البائسة والشعارات الفارغة. وكانت النتيجة.. أنه بعد ثمانية شهور فقط من إدارته للبلاد، أصبحت الأزمة الاقتصادية المحدودة هى أكبر أزمة اقتصادية فى تاريخ العالم.. وهى ما يسميها مؤرخو الاقتصاد ب«الكساد الكبير» أو «الأزمة الاقتصادية العالمية 1929». بقى «روفر» فى السلطة حتى جاء حاكم نيويورك «فرانكلين روزفلت» لينقذ الولاياتالمتحدة. سيقول البعض: إن «روفر» أكمل مدته.. وهذا صحيح.. ولكن ماذا لو كان ينتمى إلى جماعة لديها جناح عسكرى ولديها خطة محددة لن تتنازل عنها قبل أربعمائة عام! وماذا لو كان رئيساً لدولة تستورد الغذاء والصناعات وتعانى كل مشكلات التنمية؟ وماذا لو كان يواجه ضغوطاً إقليمية ودولية تريد العبث ببلاده؟ وماذا لو كان ينتمى إلى حزب دينى أو تنظيم شيوعى يزايد عليه ويدفعه إلى مزيد من التطرف كل يوم؟.. ماذا لو بقى رئيساً لمدّة ثانية بقوة الأيديولوجيا أو السلاح أو الدعم الدولى؟ الإجابة: كان «روفر» سيذهب بالولاياتالمتحدة إلى الهاوية.. ربما إلى انهيار الحياة تماماً.. أو «تفكيك» الولاياتالمتحدة وعودة «الولايات المنفصلة» الأمريكية! ■ ■ كان «روفر» مؤمناً بالرأسمالية التامة، وعدم تدخل الدولة فى الاقتصاد أياً كانت الأسباب. وكان هو فى ذلك امتداداً لنظريات الاقتصادى الإنجليزى الشهير «آدم سميث». إن الولاياتالمتحدةالأمريكية هى «دُفعة» هذا الكتاب، فقد استقلت الولاياتالمتحدة عام 1776 مع الطبعة الأولى لكتاب «آدم سميث».. «ثروة الأمم» - THE WEALTH OF NATIONS - التى صدرت هى الأخرى عام 1776. أصرّ «روفر» على المضىّ قُدماً وراء «آدم سميث» مؤمناً بأن الاقتصاد الرأسمالى يصحِّح نفسه بنفسه.. وأن آلية العرض والطلب تكفُل وحدها التصحيح الذاتى لأخطاء الرأسمالية.. وأن «الأيدى الخفية» تعمل ذلك من تلقاء نفسها دون تدخل الدولة. لقد وجد «روفر» أن مُرشده الاقتصادى يذهب به من أزمة إلى أزمة.. ولكنه كان يمضى دون وعى أو مراجعة. جاء «روزفلت» من خارج تلك الرؤية الجامدة للرئيس ومرشده وقرر تدخل الدولة لإنقاذ الاقتصاد.. وتواكب ذلك مع ظهور كتاب «النظرية العامة» للاقتصادى البريطانى الشهير «كينز» الحائز على جائزة نوبل.. والذى دعا إلى زيادة الإنفاق الحكومى والتدخل القوى للدولة فيما أصبح معروفاً ب«الاقتصاد الكينزى». سقط الرئيس الفاشل والمرشد الجامد والأيديولوجيا المغلقة. وجاء «فرانكلين روزفلت» منقذاً لبلاده من كارثة كبرى جاءت بها الصناديق! حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر