عندما انتهي لقاء رئيس دولة كبري مع أستاذ اقتصاد مرموق, أعرب الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عن عدم ارتياحه لمقترحاته حول سبل حل الأزمة الاقتصادية الخانقة, وقال في أسي وحيرة: إنه ليس أستاذ اقتصاد, وإنما ساحر. ونحي جانبا اقتراحات الساحر البريطاني جون ماينارد كينز, لحل أزمة الكساد الكبير, التي كانت تفترس أمريكا في مستهل الثلاثينيات من القرن العشرين. غير أن روزفلت, عندما تفاقمت الأزمة, وعم البلاء, اضطر إلي تجربة أفكار الساحر,وأقدم علي تنفيذ اقتراحاته, وكان لها فعل السحر في إنعاش الاقتصاد, عبر الإنفاق الحكومي علي المشروعات العامة. ومنذ ذلك الحين, اتخذت أفكار كينز من البيت الأبيض مستقرا ومقاما, والتزم بها الرؤساء حتي طرق ريجان أبواب البيت الأبيض إثر فوزه في انتخابات الرئاسة عام.1980 وهنا يؤكد الخبراء أن أفكار كينز مكنت أمريكا وأوروبا من الإفلات من أزمات الرأسمالية زمنا طويلا, وكان أن قال الرئيس نيكسون: كلنا نتبع كينز. {{{ جون كينز ذاك العبقري, أو الساحر, علي حد وصف الرئيس روزفلت, كان مولعا بالحياة والفنون الرفيعة, وكان صديقا لصفوة أدباء عصره, ومنهم الروائية الشهيرة فرجينيا وولف, وتوج عشقه للفن بالزواج من راقصة باليه روسية. ويقول أستاذ أمريكي لعلم الاقتصاد: قبل كينز كان أساتذة الاقتصاد يتسمون بالكآبة والتشاؤم, فلما جاء كينز أشاع المرح والتفاؤل, وأكد إمكان حل المشكلة الاقتصادية, ونجح في ذلك إبان أزمة الكساد الكبير. وكان كينز قد درس الرياضيات والاقتصاد في جامعة كمبردج, وما إن أنهي دراسته حتي عمل في وظيفة حكومية, لكنه لم يتحمل رتابتها, واستقال, وتمكن من إلقاء محاضرات في الاقتصاد في كمبردج, كما كان يكتب مقالات في الصحف والمجلات. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولي1914, تم استدعاؤه للعمل في وزارة الخزانة, ولما انتهت المعارك, جري اختياره عضوا في مؤتمر السلام, واستشاط غضبا من مقترحات الزعماء, فقد كانوا يضغطون علي ألمانيا لدفع تعويضات, وحذر في مقال كتبه من أن هذه المقترحات قد تدفع ألمانيا لشن حرب عالمية ثانية, وقد صدق حدسه. وما إن بدأت أزمة الكساد الكبير, حتي عكف كينز علي وضع حلول من شأنها إنقاذ الرأسمالية من أزماتها الدورية, وكان أن أصدر عام1936 رائعته الاقتصادية النظرية العامة للعمالة والفائدة والنقود, وصار من أبرز أقطاب علم الاقتصاد, وظلت أفكاره طوقا للنجاة من أزمات الرأسمالية, حتي جاء الرئيس الأمريكي ريجان, وقرر العودة إلي أفكار آدم سميث مؤسس النظرية الرأسمالية والمدافع الأول عن اقتصاد السوق الحرة في كتاب ثروة الأمم الذي صدر عام.1776 {{{ وكان هذا بداية حقبة ريجان والمرأة الحديدية البريطانية ماجريت ثاتشر, وهي حقبة شهدت جموح الرأسمالية, وجشع رجال المال والأعمال. وصار الجموح ضاريا وشرسا عقب انهيار الاتحاد السوفيتي ونظامه الشيوعي, لكن المثير للدهشة أن الرأسمالية وهي في أوج انتصارها, دخلت النفق المظلم لأزمة انهيار النظام المالي العالمي في سبتمبر.2008 لقد حولها جشع رجال الأعمال والأعمال إلي مضاربات واقتصاد كازينو القمار. وعندئذ قال أساتذة علم الاقتصاد: لا مخرج من ظلمات الأزمات سوي بعودة كينز وأفكاره, لكنه لم يعد, لأن غلاة الرأسماليين حالوا دون ذلك, واستمروا في حصد الأرباح والعلاوات, ولم يبالوا بإنذارات حركات الاحتجاج. وتتداعي حكومات أوروبية تحت وطأة سياسات التقشف لسد عجز الموازنة, وهي سياسات تؤجج غضب الناخبين الذين يعانون البطالة. ولم يعد ممكنا الجزم بأن أحزاب اليمين أو اليسار التي تتشابه برامجها إلا قليلا, وتؤمن معا بمعبود آدم سميث ألا وهو اقتصاد السوق يمكنها أن تقدم حلا ناجعا للأزمة الرأسمالية. والبلاغة السياسية والأيديولوجية وحدها لا تقدم حلا. ولم يظهر بعد في الأفق ساحر جديد. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي