بدا كأنه ساحر يخفي في جعبته أسرار السعادة, ولغز الرخاء الذي سينعم به خلق الله, اذا اتبعوا نصائحه والتزموا بتوصياته. ولم يكن عابر سبيل, وانما كان المفكر الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريد مان. وكان يلقي بسلسلة من أحاديثه في التليفزيون عام0891, تحت عنوان' احرار في الاختيار'. وتحدث طويلا عن سحر السوق الحرة. وبشر بعودة آدم سميث من غيابات القرن الثامن عشر الي ساحات القرن العشرين. وكان آدم قد أرسي أركان النظرية الرأسمالية في كتابه' ثروة الأمم' ودافع بحرارة عن السوق الحرة, والعرض والطلب. وحظر علي الحكومات التدخل في حركة الأسواق. وزعم أن' اليد الخفية' ستتولي هذه المهمة. غير أن الأسواق عندما اضطربت اضطرابا شديدا ابان الركود الاقتصادي الذي ألم بالدنيا في الثلاثينيات من القرن العشرين, لم تظهر اليد الخفية. ولم ينقذ العالم أنذاك سوي مفكر اقتصادي بريطاني هو جون مينار د كينز. وأوضح أهمية زيادة الانفاق الحكومي لتحقيق الانتعاش الاقتصادي. وظلت افكاره سارية المفعول حتي عام.0891 ففي ذاك العام تحالفت المرأة الحديدية مارجريت ثاتشر رئيسية وزراء بريطانيا مع الممثلل القديم رونالد ريجان الذي أصبح رئيسا لأمريكا. وبادرا باقصاء كينز من المشهد, ورحبا بعودة آدم سميث. وتلك كانت لحظة زهو ميلتون فريدمان, الفائز بجائزة نوبل, فهو أحد أقطاب النظرية النقدية وكان يناصب كينز العداء. وعندئذ تصور مؤرخ اقتصادي امريكي هو تود بوشهولز ان آدم سميث شارك في حفل تنصيب ريجان للرئاسة. وأطلق ريجان ومارجريت العنان للأسواق الحرة. وألغيا القيود وأزالا السدود من أمام رجال البنوك, ونصبا أقطاب وول ستريت( حي المال والأعمال) علي عرش الحكمة المالية. ولم يعد صوت يعلو علي صوت الرأسمالية. وأضحت كأنها قدس الأقداس عندما اجتاحت ثورات أوروبا الشرقية النظم الشمولية والشيوعية. واكتمل الاجتياح بانهيار الاتحاد السوفيتي.1991 وعندئذ جنح مفكر امريكي هو فوكوياما وقال ان التاريخ بلغ نهايته بانتصار الرأسمالية والليبرالية! ولم تمر سنوات قلائل علي طرح نظرية نهاية التاريخ, حتي بدأت ومضان حركات الاحتجاج المناهضة للرأسمالية والعولمة, في مدينة سياتل الامريكية في03 نوفمبر.9991 فقد اندلعت المظاهرات ضد مؤتمر لمنظمة التجارة العالمية. وانفجرت مظاهرات اكبر في واشنطن في ابريل0002 ضد اجتماع لصندوق النقد والبنك الدوليين. وتصاعدت المظاهرات وامتدت الي أوروبا. وهنا قد يمكن القول ان ثمة خطيئة كبري ارتكبها رجال البنوك والمال ورجال السياسة. فقد تضافروا معا في تحويل المواطنين الي مستهلكين. وكان هذا ما حدث منذ مستهل عقد الستينيات, فيما اطلقوا عليه ثقافة الاستهلاك وناء كاهل المستهلكين تحت وطأة اغراءات' السوبر ماركت'. وكان جل هم رجال البنوك والمال تحقيق المزيد من الأرباح علي نحو عاجل. وهو ما ألهب ثقافة المقامرة التي أفرخت أزمة انهيار النظام المالي العالمي في سبتمبر.8002 وتدخلت الإدارة الأمريكية لانقاذ البنوك بضخ007 مليار دولار من أموال دافعي الضرائب, ودعا الخبراء الي ضرورة فرض قيود علي ممارسات البنوك. وهو ما لم يحدث. واستمر استحواذ الأقلية علي الثروة, وتحكمها في العباد, والبلاد. ولهذا اندلعت حركة الاحتجاج الأمريكية' احتلوا وول ستريت'. وهي تكشف في شعاراتها الافتقار الي العدالة الاجتماعية والاقتصادية. وتندد بالرأسمالية والعولمة. ولم يعد في امكان ميلتون فريدمان الحديث عن سحر الأسواق, برغم براعته في الجدل وولعه بالسجال. ذلك ان عواصم الدنيا تشهد عملية خلافة تتبلور فيها أفكار انسانية جديدة لعالم تزدهر في ربوعه بساتين الديمقراطية وحدائق العدالة الاجتماعية. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي