يصعب على المرء، وبخاصة إن كان من زمرة الاقتصاديين، أن يفهم لماذا يحرص بعض المسئولين فى هذا البلد الأمين، منذ قيام ثورة 25 يناير المباركة، على أن يؤكدوا بين الفيْنة والأخرى على أنه لا عودة عما يسمونه (الاقتصاد الحر)، وهو ما يفهم منه، صراحةً أو ضِمنياً، ترك مسئولية إدارة النظام الاقتصادى إلى جهاز الأسعار و(قوى العرض والطلب). يصدق ذلك على هؤلاء المسئولين فى المستويات العليا، وخاصة على مستوى رئيس الوزراء، وعلى اختلاف توجهاتهم، وينطبق على ما جرى اخيرا بشأن رفع أسعار المنتجات البترولية والغاز الطبيعى والكهرباء، وما سبقه من تمهيد إعلامي محدود. ويهمنا هنا أن نعمل على تفنيد مقولة (الاقتصاد الحر) تلك، كقاعدة فكرية للتلاعب الطليق لاقتصاديات السوق، دونما سعى إلى التدخل الواعى والمنظم للدولة، آملين تبديد بعض الأوهام الشائعة، وأبرزها أن ذلك الاقتصاد الحر هو السبيل الوحيد، أو الطريق الأمثل، لتحقيق النمو والتنمية. ولسنا نعرف على وجه التحديد ماذا يقصدون بكلمة الحر فى سياق المصطلح السابق، ولكنها فى أغلب الظن تنصرف إلى ما تعنيه (الحرية) بالانجليزية سواء بالمدلول العام للفظ Freedom أو المدلول الخاص لكلمة liberty متضمنة فى المجال الاقتصادى ما ذهب إليه آدم سميث مؤسس الفكر الاقتصادى الغربى الحديث وأنصاره الكُثر، حينما رفعوا شعار (دعْه يعمل، دعْه يمر.) بمعنى إطلاق حرية النشاط الاقتصادى للأفراد وحرية الانتقال داخل وعبر الحدود، دون أى تدخل من جانب الدولة، متّكئين على فرضية (اليد الخفية) التى توفق بين المصالح الخاصة دون أن يراها أحد وهى قابعة خلف الستار. ولقد جرت مياه كثيرة فى الأنهار منُذْ أطلق آدم سميث دعواه، تأسيسا على كتابه الأشهر: (بحث فى طبيعة وأسباب ثروة الأمم) الصادر عام 1776. وأبرز تلك (المياه) ما جرى بفعل الأزمات الاقتصادية الدورية من التضخم والكساد على امتداد التاريخ الاقتصادى للرأسمالية، وخاصة عبر القرنين الأخيرين، وربما كان أهمها أزمة (الكساد العالمى العظيم) 1929 - 1933 التى أظهرت عجز نظام (الحرية الاقتصادية) و(المشروعات الخاصة) عن تحقيق التوازن الاقتصادى المأمول عند مستوى التشغيل الكامل أو قريباً منه. ولهذا، ظهر مذهب جديد داخل الفكر الاقتصادى الرأسمالى نفسه تحت لواء تدخل الدولة، وتولّى التنظير له الاقتصادى البريطانى جون ماينارد كينز، وخاصة فى كتابه (النظرية العامة فى التوظف والفائدة والنقود). ومن قبل أن تتبلور النظرية، كان تدخل الدولة فى ثلاثينيات القرن الماضية قد أصبح واقعاً يتجسد من خلال ما سمى السياسة الاقتصادية الجديدة التى دعا إليها الرئيس الأمريكى تيودور روزفلت، عبر التدخل الحكومى بالسياسات المالية والنقدية وغيرها، من أجل توفير فرص العمل وتوسيع قاعدة كسب الدخول، ومن ثم رفع الميل للاستهلاك، للوصول من خلال ما يسمى أثر المضاعف إلى تحقيق زيادات ملموسة فى مستوى ومعدل النمو للناتج المحلى الإجمالى. وعلى الضفة الأخرى من النهر، كان الفكر الاقتصادى الاشتراكى قد مدّ ظلاله لقرن ونصف قرن تقريبا، داعياً إلى قيام الدولة بالدور الرئيسى فى المجال الاقتصادى والإنتاجى، من خلال التنمية والتخطيط القومى الشامل. ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى السبعينيات، وعلى مدى نصف قرن تقريباً، استرشدت الدولة الرأسمالية الغربيّة فى أوروبا وأمريكا الشمالية - بمذهب تداخل الدولة الكينزى، تحت لواء ما سمى (دولة الرفاهة)، حتى بدأت تظهر آثار أزمة (التضخم الركودي) عقب رفع أسعار النفط فى أواسط السبعينيات. ومنذئذ انقلبت الرأسمالية العالمية على مذهب تدخل الدولة وعلى دولة الرفاهة وألقت عبء الأزمة على الطبقات العاملة والوسطى من خلال خفض الإنفاق الاجتماعى وتصاعد نفقات التسلح وخوض المغامرات الخارجية المتواصلة. وعلى أنقاض تدخل الدولة، برز مذهب الليبراليين الجدد الداعين إلى فتح الأبواب أمام (اقتصاد حرّ) غير مبالٍ بالعواقب الاجتماعية للسياسات الرأسمالية، وخاصة من جّراء تقليص النفقات الاجتماعية للدولة وإطلاق العنان للأسعار تحت مظلة قوى العرض والطلب، وإسناد المزيد من الأدوار للشريحة العليا من أصحاب رأس المال الخاص غير المنتج وما يسمى فى مصر بكبار رجال الأعمال. وقد انعقد لواء الدعوة للاقتصاد الليبرالى الجديد إلى صندوق النقد والبنك الدوليين، وتم ربط القروض المقدمة للبلاد النامية باشتراط انتهاج سياسات الاقتصاد الحر المذكور، من خلال إعطاء الأولوية لسد فجوات العجز فى الموازين المالية والنقدية (وخاصة الموازنة العامة للدولة) عن طريق خفض النفقات الاجتماعية الموجهة إلى الشرائح الاجتماعية الضعيفة، وإطلاق العنان لقوى العرض والطلب وللقطاع الخاص الكبير، دون الاعتداد بمتطلبات التنمية الشاملة فى مدلولها الحقيقي. ولقد كان نصيب مصر من تطبيق مذهب الليبرالية الجديدة تحت ظلال مشروطية صندوق النقد الدولى، نصيباً وافياً، وخاصة خلال فترة (حكم رجال الأعمال) منذ مطلع عام 2007 حتى 25 يناير 2011. ومن عجب أن يتبنى رؤساء حكومات ما بعد ثورة يناير نفس المذهب الاقتصادى المدمر السابق عليها، مذهب الاقتصاد الحر لليبرالية الجديدة، من عصام شرف إلى حازم الببلاوى ثم إبراهيم محلب. ونخشى أن تكون قرارات رفع أسعار الطاقة والوقود فى الأيام الأخيرة، بغرض سد فجوة العجز فى الموازنة العامة، انعكاساً لهذا النهج فى التفكير الاقتصادى الذى عفا عليه الزمن، وخاصة بعد أن كشفت الأزمة الاقتصادية العالمية فى 2008 - 2009 عن عقم مذهب (التحرير) الاقتصادى المطلق، والسياسات القائمة على فرض (التقشف) على الطبقات الاجتماعية ذات النصيب الأقل من الدخل القومى، والإفراط فى الاستدانة ومن ثم ارتفاع عبء الدين العام المحلى والخارجي. وبرغم الدروس الناصعة لكل ذى عينين، من جراء فشل سياسات الاقتصاد الحر فى الدول المتقدمة اقتصاديا ثم فى البلدان النامية، لاسيما مصر، خلال العقود الأربعة الأخيرة عموما، وفى السنوات السابقة على ثورة يناير خصوصاً، فإن البعض يصر على مواصلة ارتكاب الأخطاء، دوى وعى كاف بالأخطار المحدقة. وليس وهْم الاقتصاد الحر فى حد ذاته، هو الوحيد فى هذا السياق، وإن كان الرئيسي، وتتفرع عنه مجموعة أخرى من الأوهام، أبرزها: الاعتماد الوحيد تقريبا على الشريحة العليا من كبار رجال المال والأعمال ذات النشاط المفرط فى القطاعات الأعلى ربحية، وخاصة العقارات والمقاولات والتجارة والاتصالات وبعض الصناعات الاستهلاكية والتجميعية، دون السعى إلى توسيع قاعدة الأنشطة المنتجة على مستوى القطاع الخاص المتوسط والصغير والأصغر. وينتج عن هذا الوهم، عدم السعى إلى إعادة بعث الحيوية فى القاعدة الإنتاجية للقطاع العام، وهو القطاع الأكثر قدرة على تحمل أعباء المخاطرة فى المجالات ذات الأهمية الاستراتيجية، اقتصاديا واجتماعيا، وفى المشروعات ذات فترة الاجتناء الطويلة زمنيا أو منخفضة الربحية نسبيا. الاعتماد على آليات اقتصاد السوق وحدها، أو جهاز الأسعار، كآلية رئيسية لتسيير النظام الاقتصادى، دون إعطاء الأولوية الواجبة لمنهجية التخطيط القومى الشامل بأدواته الإلزامية والتأشيرية المعروفة. الاعتماد على ما كان يسمى القطاعات النشيطة قبل ثورة يناير، كالمقاولات والاتصالات، دون التوسيع والتعميق للقطاعات الأكثر قدرة على رفع الإنتاجية فى المدى الطويل، وخاصة من خلال عملية تصنيع الآلات والمعدات الانتاجية، وتطوير الأنشطة المعتمدة على العلم والتكنولوجيا. وخلاصة الأمر أنه ينبغى التخلّى عن الأوهام المرتبطة بدعوي الاقتصاد الحر المعتمد على شريحة كبار رجال المال والأعمال، وأن ننتقل إلى إسناد الدور الرئيسى فى عملية إطلاق الحركة التنموية إلى جهاز الدولة بمعناه الواسع، من خلال الاقتصاد الموجّه ومتعدد القطاعات (القطاع العام والخاص والتعاوني) مشتملا بطبيعة الحال على رأس المال الخاص المنتج و(رجال الصناعة والتكنولوجيا)، كطريق متكامل لا مفر منه، خلال المرحلة الانتقالية، لتحقيق النمو والتنمية. لمزيد من مقالات د.محمد عبد الشفيع عيسى