تتوقع رؤية مصر المستقبلية 2030 أن تحتل مصر ترتيباً متقدماً بين أهم المقاصد السياحية فى الشرق الأوسط. رغم ذلك رَان صمت مطبق فى السنوات الأخيرة على قطاع السياحة، وتوارى الجدل العام حوله، ربما يأساً من الخسائر التى نزلت به -وما زالت تتراكم- من جراء النشاط الإرهابى المحموم الذى يترصد السياحة، ويأخذ بخناقها، والسياحة قطاع محفوف بالمخاطر لا يكاد ينجو من خطر حتى يضربه خطر آخر، فما إن أفلت من براثن الأزمة المالية العالمية، حتى وقع فى فخ الاضطرابات الاجتماعية التى رافقت ثورتين عارمتين ضد الاستبداد السياسى فى 25 يناير 2011 وضد الاستبداد الدينى فى 30 يونيو 2013، والمفارقة أن السياحة قطاع وطنى لكنه يخضع لسلطان القوى الخارجية أكثر مما تتحكم فيه السياسات المحلية، ومع ذلك فإن السياحة لا ينبغى حتى فى ظل الإرهاب أن يجف ضرعها تماماً، وتخرج من دورة الحياة، فثمة فرص كامنة، حتى عندما يضيق عليها الخناق ويصبح رأسها هدفاً لرماح الإرهاب المسومة، وقد كسرت دول ذات وزن دولى مرموق فى النشاط السياحى مثل إسبانيا وتايلاند وإندونيسيا موجات إرهابية عاتية، وتغلبت على خسائرها بتنويع سلة منتجاتها السياحية. استوقفتنى فى الأسبوع الماضى مديرة التسويق فى أحد فنادق عمان الشهيرة المطلة على جبالها السبعة، سألتنى والأسى يطل من عينيها متى تتعافى مصر؟ لقد ماتت السياحة فى الأردن ولا قيامة لها إلا بدبيب الحياة فى أوصال السياحة المصرية! قلت ما قاله شوقى فى بكائيته لدمشق «كلنا فى الهم شرق!» ورحت أزيدها من الشعر بيتاً: قلت باختصار، السياحة فى مصر قطاع واعد لم ينطق بعد بكل كنوزه، ولم يفصح عن إمكاناته الكامنة. وهناك الكثير -حتى فى ظل خطر الإرهاب- مما يمكن الوصول إليه، ولم تطله بعد يد الاهتمام، يكفى أن السياحة ما زالت منافعها تتساقط على «جيوب ضيقة» من المنتفعين من الشركات والبنوك الأجنبية ووكلائها المحليين، لكن ما يمكن أن تجود به السياحة من خير عميم على الفقراء والفئات الأقل دخلاً ما زال جزءاً من الأهداف المعقودة على السياحة، ورغم الأداء المتواضع للسياحة فى الاقتصاد المصرى، فإنها تحصد ما يقرب من 40 بالمائة من إجمالى صادرات الخدمات فى مصر، وهو ما يفوق جميع إيرادات المتحصلات الخدمية، وتمثل 3٫11 بالمائة من الناتج المحلى الإجمالى إذا ما أضفنا إليها المساهمات غير المباشرة المصاحبة للسفر والسياحة، مثل خدمات المطاعم والفنادق، وذلك لتشابك السياحة مع كثير من القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى، التى تزيد على 70 صناعة مغذية، كما تعتبر السياحة من أهم قطاعات الاقتصاد توفيراً لفرص العمل، حيث يعمل فى قطاع السياحة، سواء بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة، حوالى 12٫6% من حجم العمالة فى مصر. وبالرغم من الإمكانيات السياحية الهائلة لمصر -وبالذات فى مجال السياحة الثقافية- فإن مستوى تنافسية السياحة المصرية يعتبر متدنياً جداً، مقارنة ببعض الدول التى لا تضاهى مصر بتراثها الغنى، فقد جاءت مصر فى المرتبة 75 بين 139 دولة فى مؤشر القدرة التنافسية للسياحة والسفر لعام 2012. وترتهن قدرة مصر على النهوض بقطاع السياحة فى 2030 على تنويع وتميز المنتجات السياحية، من خلال تقديم منتجات سياحية جديدة ذات طابع خاص، والتركيز على أنماط سياحية غير تقليدية لمخاطبة شرائح جديدة من السائحين ذوى الدخول المرتفعة، والعمل على زيادة مدة إقامة السائح خلال زيارته للمقصد السياحى، ودعم السياحة الثقافية ذات المكون السياحى المتميز وغير المتشابه أو القابل للمنافسة. وينطوى قطاع السياحة على العديد من الفرص والإمكانيات، التى يمكن تعظيمها والاستفادة منها فى تنمية نموذج سياحى يحقق مبادئ الاستدامة، وتنبع هذه الفرص من واقع المقومات السياحية المتوافرة فى مصر، حيث تعد مصر من الدول القليلة التى يقبل عليها السائحون طوال العام، بعكس دول كثيرة تعتمد أساساً على البحر والشمس فى موسم الصيف، كما تتوافر المقومات السياحية الهائلة فى مصر لمختلف أنواع السياحة التاريخية والدينية والعلاجية والترفيهية وغيرها على مدار السنة، ويصاحب هذه المقومات تسهيلات فندقية ولوجستية معقولة، وإن كانت غير كافية، وهناك فرص لتنمية السياحة المستدامة، بما يتماشى مع التوجه العالمى نحو المحلية كرد فعل على العولمة وتنميط النماذج السياحية. من هذه الفرص؛ تعزيز مفهوم «السياحة المنحازة للفقراء «Pro-Poor Tourism» التى تضمن مشاركة كافة فئات المجتمع فى عمليات التنمية السياحية، من خلال توفير مشاريع ذات عائد مباشر على السكان المحليين، مثل الصناعات الحرفية التقليدية والهدايا التذكارية، وتقديم خدمات الإرشاد السياحى، والإقامة فى بيوت سكان المناطق التراثية، وتوفير تجربة حية للتعايش فى التراث المادى والإنسانى فى هذه المناطق، وهو توجه يتوقع أن يتنامى فى المستقبل مع تزايد تداعيات العولمة الاقتصادية، التى ستحمل معها توجهاً معاكساً عن تزايد الاهتمام بالثقافات المحلية، مما يعمل على الارتقاء بمستوى الطبقات الأقل دخلاً وتحقيق العدالة فى توزيع المنافع التنموية للسياحة، وتوفير منتج سياحى يساهم فى الحفاظ على البيئة المحلية، ويرتهن هذا التوجه باستحداث أنماط مختلفة وجديدة من الإقامة غير الفندقية فى المناطق الثقافية التراثية وبعض المناطق الريفية، ويتم ذلك من خلال إحياء التراث فى المناطق القديمة، ومن أبرز التجارب الناجحة فى هذا المجال تجربة منطقة «بوسعيد» فى تونس، وهى منطقة سياحية رائعة تتميز بطرازها المعمارى الفريد، ويُمنع البناء فيها بالطرق الجديدة أو بالمعدات الحديثة، بل يقتصر البناء فقط على الطرق التقليدية القديمة. وتقدم مدينة «البترا» التاريخية بالأردن نموذجاً آخر. ويعد نموذج التنمية السياحية المستدامة فى محافظة جنوبسيناء نموذجاً يجب تعميمه، حيث نجحت المحافظة فى تطوير المناطق السياحية القائمة من خلال صياغة رؤية متكاملة، تشمل جميع عناصر التنمية المستدامة من تطوير للبنية التحتية وتطوير النسيج العمرانى مع مراعاة خصوصية المنطقة وتراثها الحضارى وموروثها الفنى.