لأن الفراق نار، والموت هو نقطة البداية فى عالم الأسرار، زارنى الخال عبدالرحمن الأبنودى فى اليوم التالى لوفاته، وجدته يقتحم علىَّ حلمى ومنامى فى جلبابه الوقور، ويلوِّح لى وكأننى أجالسه فى منزله الريفى بالإسماعيلية، وبعد السلامات والتحيات طلبت منه أن نذهب للبحر، فوجدته يقول لى: «هناك طريق مختصر تعالى نسير فيه»، وبالفعل سرت خلفه ونحن نتناول أطراف الحديث إلى أن فوجئت بأن الطريق المختصر ما هو إلا مقابر، وشاهد الخال على ملامح وجهى الخوف فسرعان ما قال لى «الأبنودى»: «يا ولدى لا تخشهم فهم الحقيقة، لا تخف منهم فهم أموات»، ثم أردف ضاحكاً وقال بلكنته الصعيدية: «همّا اللى المفروض يخافوا منينا»، ولكنى لم أستطع مواصلة الطريق إلى أن رحل «الأبنودى» وسبقنى وتركنى وسط مقابر لا أعرفها وموتى لم أقابلهم فى يوم من الأيام. لم يكن الحلم كابوساً، فقد استيقظت مبتسماً ومنشرح الصدر وهذا ما دعانى إلى أن أرويه على أمى، تلك السيدة الريفية الأصيلة التى بدأت الاستماع بعد أن قالت جملتها المعهودة التى تظن أنها تحمل تعويذة سحرية تقضى على شرور الأحلام: «الشمس على الحيطان والحلم للشيطان»، ثم أردفت مبتسمة ومفسرة الحلم قائلة: «الأبنودى يا ولدى فى بالك، قول دائماً الله يرحمه». مات الشاعر والخال والأب عبدالرحمن الأبنودى الذى استحق أن أرثيه بنفس الأبيات التى سبق وكتبها فى رثاء صديقه «ناجى العلى» بعد اغتياله قائلاً: «أمّايه وانتِ بترحى الرحى على مفارق ضحى وحدك وبتعددى على حاجة مفقودة، متنسنيش يا أمّه فى عدودة، عدودة من أقدم خيوط سودا فى توب الحزن، وحطى فيها اسم واحد مات». وجدان «الأبنودى» حمل مصر والعروبة كلها، وحقيقة أن أشعار «الأبنودى» لا يمكن أن يتم الاستمتاع بقراءتها، حيث إن كل المتعة تكون فى الإنصات للأبيات وهى تخرج من بين شفتى كاتبها نفسه وبعباراته الصعيدية «الأبنودية» الصعبة التى كانت تحتاج منه فى بعض الأحيان إلى تفسير معانى الكلمات، فأشعار «الأبنودى» هى التى يوصف جزء كبير منها بالشعر «المحكى»، وإذا حاولت بعد القراءة التجربة فأمسك الآن بديوان «جوابات حراجى القط» أو «بالموت على الأسفلت» وابدأ فى القراءة وأثق أنك ستتعثر كثيراً أمام بعض العبارات، وهذا ليس عيباً فى أشعار «الأبنودى» بقدر أنه ظل سمة خاصة به، حيث كونت تلك السمة قواعد مدرسته، ما شجع بعده من الشعراء المعاصرين كثيرين وكان من بينهم «هشام الجخ» الذى حاول أن يسير على نفس درب «الأبنودى» وأن يستغل اللكنة الصعيدية ليطرح نوعية جديدة من عبارات الأشعار. لقد استطاع عبدالرحمن الأبنودى أن يعبر عن نفسه ومشاعره ومجتمعه الصغير فى أبنود والكبير فى مصر والوطن العربى بأبيات لا يمكن أن تُنسى سواء تلك التى غناها محمد رشدى وعبدالحليم وآخرون أو التى ما زالت حبيسة الورق والدواوين، ولو كان ما زال بيننا كنت سأذهب إليه وسأدخل عليه مكتبه وسأطلب منه الغداء «كما عودنى دائماً» وسأقول له كيف استطعت أن تقول يا خال «اوعوا تنسونى»، كيف استطاع عقلك أن يفكر فى تلك الجملة؟! فحقيقة أن النسيان آفة الزمان والإنسان ولكن هناك بشراً تفوقوا على الزمن والنسيان وأنت منهم. ولأن «الأبنودى» أثر فى جيل وبكاه ملايين وجدت الزميل العزيز محمود زيدان، الكاتب الصحفى ب«الأهرام المسائى»، يرثيه فى مجموعة من الأبيات الزجلية قائلاً: «اتكلموا عنك يا وليدى.. سامعهم يا عبدالرحمن.. بيقولوا إنك همّلت الدنيا.. أهم بناتك وسجراتك حلوين.. حاجة من ريحتك.. هيبلوا راس قبرك بشوية ميّه.. مش قلتلك متفاتة الدنيا.. اوعاك تتحزم بيها فيوم.. دى زى ورقة توت.. آخرتها الموت.. كدابة.. غشاشة.. ومين زيها فى الغش.. دى يا وليدى بميت وش.. تضحك وتفتح باب.. تتغر انت بضحكتها.. تديك نهايتها.. من غير إحم ولا دستور.. بكفاية منها قطنة وكفن كستور.. شوف الناس يا وليدى أهم كلهم فرحوا بيك.. إحراجى ويامنة وأم على أبعباس وكل الناس.. بكفاية من الدنيا وأهلاً بيك».. الله يرحمك يا خال.