بحثاً عن حلم ظل يراودهم، لهثاً وراء «لقمة عيش»، حزم الشباب أمتعتهم، ورحلوا محمّلين بتحدٍّ: «يا نموت يا نفوت».. كان الموت هو الأقرب إليهم خلال رحلتهم على قارب متهالك بين أمواج البحر المتلاطمة، التى لم ترحم أجسادهم النحيلة.. والحلم «يفوت» صوب سواحل إيطاليا، حيث مبتغاهم، لا يشغل بالهم إلا تلك المنازل التى شيّدها جيرانهم الذين سبقوهم إلى الشاطئ الآخر بالأموال التى أرسلوا بها من الغربة، والأراضى التى اشتروها باليوروهات والدولارات.. مشاهد كثيرة للثراء تضج بها مدينة «أبنوب» التابعة لمحافظة أسيوط بأقصى صعيد مصر، يتمتع به الكثير من شباب القرية الذين غامروا وخاطروا بالهروب من مصر إلى دولة أوروبية، فعملوا لسنوات، ثم عادوا مرة أخرى ليستقروا، وأغروا بأموالهم عدداً آخر من أبناء قريتهم بالسفر والهروب من مصر، غير أنهم اصطدموا بسماسرة هجرة غير شرعية، جمعوا بدورهم الأموال وكوّنوا الثروات من تجارة الحلم لأبناء مدينتهم. يتشح نساء عائلة «علم» بالسواد، ففى كل منزل من بيوت الأسرة مفقود.. 7 من شبابها فقدتهم العائلة دفعة واحدة، بعدما اتفق أولاد العم على السفر معاً لانتشال العائلة الكبيرة من الفقر الذى ألم بها، لتعيش العائلة بعد فقدانهم حياة بلا مستقبل، ومع مرور أكثر من 7 أشهر على اختفائهم، تملك منهم اليأس، فأقاموا السرادقات لاستقبال العزاء فى المفقودين السبعة. عدد من الممرات الطينية شديدة الضيق، تزدحم بمنازل العائلة، وفى نهاية الممر الأخير، يقع منزل «حمدى حنيد»، والد «إيهاب»، أحد المفقودين من العائلة، يجلس الرجل على أريكة خشبية، بجلبابه البنى الرث، وشاله الرمادى، وعباءته المهترئة، وبلهجة صعيدية مليئة بالحزن يقول: «لازم كنا نعمل صوان ونستقبل العزاء، العيال راحوا.. عيالنا راحوا خلاص»، ويستطرد: «ده اللى تغيب عنه فرخة بيسأل عليها بعد تلات أيام.. ده راجل ملو هدومه عنده 17 سنة غايب من سبعة شهور.. إزاى مانستقبلش عزاه». ويتذكّر الرجل حين جاء السمسار وجلس معهم على نفس الأريكة، ووعدهم بوصول أولادهم بالسلامة، وكلّف والده بجمع الأموال المتبقية من العائلة بعد وصول الأولاد، وذلك قبل رحيلهم بأيام: «10 آلاف جنيه على كل رأس، باقى الفلوس اللى مادفعنهاش.. واللى يقصر كان بيهدد إنه هيرجع ابنه من إسكندرية». ويشير الرجل بسبابته إلى حوش البهائم الفارغ «بعنا البقرة اللى حيلتنا عشان نكمل له الفلوس»، وأخذ السمسار وقتها، خلال جلسته مع العائلة، يصف فى جودة المراكب التى ستحمل أولادهم إلى إيطاليا: «قال لنا بواخر سياحية زى الفل ومستحيل تغرق». «الناس كلها عندها مصيبة واحدة، وإحنا عندنا بدل المصيبة سبعة».. يقولها «حمدى» الأب المكلوم، مشيراً إلى فقدان عائلة «علم» جيلاً كاملاً من أولادها: «بدل ما يرفعونا السما.. موتونا خالص». وتقاطعه «صباح أنور» زوجته وهى تصيح والدموع تنهمر على وجنتيها: «كان آخر مرة أسمع صوته فى اليوم الشؤم اللى سافروا فيه.. قال لى يا أمّه آدينى هطلع المركب، ولما أوصل إيطاليا هبعت لك تمن البقرة»، يصيح فيها الرجل ويطالبها بأن تهدأ وتتوقف عن العويل والصراخ. «صباح»، السيدة الخمسينية، تجلس على مبعدة من جلسة الرجال، بوجهها الذى لوحته الشمس، متشحة بالسواد، وتضع فى فمها طرف الشال الأسود وطرفه الآخر فى يدها، تشعر دوماً بالاضطهاد، فهو شعور يلازمها، وورثته لنجلها الذى رغم حصوله على مجموع فى «الثانوية» كان يضمن له دخول كلية الهندسة، إلا أنه لم يحاول، واختار الطريق الأسهل للحصول على الأموال: «المدرس يقول له أبوك إيه صنعته.. يقول له الواد أبويا فلاح.. فيقول له فلاح وشاطر الشطارة دى». ويؤكد الأب بعينيه الزائغتين، كلام زوجته: «إحنا مش واخدين حقنا، لا هنا ولا هنا»، مشيراً إلى الشكاوى والمحاضر التى حررتها العائلة ضد «س»: «يعنى قول لى حتى حق عيالنا مش عارفين ناخده.. الحكومة مش عارفة تقبض عليه يعنى!!.. إحنا مالناش حقوق، حقنا عند ربنا.. ده راجل فاجر وقادر». ويطرق أحدهم باب المنزل الخشبى المتهالك بقوة، فيكاد الباب يسقط من عنف الطرقات، ويدخل «مدحت الباشا» والد «ماركو»، يسلم على ابن عمه «حمدى»، ويجلس إلى جواره، ويأخذ منه طرف الحديث، عن فقدان أولادهم، ويقول بلهجة صعيدية: إن «نجله أصبح مجنوناً بفكرة السفر، بعدما أرسل له زملاؤه فى المدرسة صورهم من إيطاليا بعد سفرهم إلى هناك للعمل، لكن الأب واجه نجله المفقود بالضرب وطرده من المنزل، من أجل إبعاده عن السفر إلى إيطاليا، لكن محاولته لم تجدِ نفعاً، فاضطر الأب إلى جمع 20 ألف جنيه ليحقق لنجله ذى ال15 عاماً حلمه بالعمل فى أوروبا.