ما الذى أسخط الغرب على أربكان وأرضاه عن أردوغان؟ هذه أسئلة مهمة فى عصر الهيمنة الغربية، وانفراد أمريكا بالقيادة فى العالم اليوم بعد تفتت الاتحاد السوفيتى، وبعد هزيمة الشيوعية والشيوعيين فى أفغانستان. لم يكن من السهل على أى مصلح أو راغب فى الإصلاح فى تركيا، أن يخرج بسهولة من الحصار الذى فرضه أتاتورك على الدعوة وعلى التوجه الإسلامى، بعد سقوط دولة الخلافة بحالها وبما لها وبما عليها. فالإجراءات التى اتخذها أتاتورك، اشتملت على حظر الحجاب للنساء، وحظر الطاقية «غطاء الرأس» للرجال، وحظر الكتابة باللغة العربية، وحظر الأذان فى المساجد، وحظر الدعوة الإسلامية على المنابر، وإلغاء مدارس الأئمة والخطباء، وحظر توظيف المحجبات، وهذا كله بمخالفة قيم الديمقراطيات والحريات، خاصة الشخصية والأيديولوجية. لم يغضب الغرب من انتهاك الحريات ولا حقوق الإنسان ولا قيم الديمقراطية فى الحالة الأتاتوركية، وقد انتشرت بسبب ذلك الطرق الصوفية العديدة، وكذلك البدع والخرافات التى التصقت بالدين، وازدادت حدة العلمنة المتطرفة والتغريب فى المجتمع، وتأثرت كثيراً الأوقاف التركية، وما أدراك ما الأوقاف التركية وأثرها فى كثرة أعمال الخير فى المجتمع، ولكى ندرك كيف تأثرت الأوقاف، ما علينا إلا أن نعرف أن أحد تلك الأوقاف «وقف الزبدية» كان للحفاظ على كرامة الخدم والطباخين الذين يكسرون أطباقاً غالية الثمن، فيدفع الوقف قيمتها حفاظاً على كرامة أولئك الخدم. أسس أربكان سنة 1971 حزب النظام الوطنى «الاتحاد»، بعد أن انضم للبرلمان ونجاحه المبهر فى انتخابات 1969، ولكن الإدارة آنذاك، أرادت أن تقضى على الرجل وتوجهه فى مهده، فألغى القضاء حزبه الجديد بعد أشهر قليلة، وصادر ممتلكاته، ومنع مؤسس الحزب من العمل، من خلال أى حزب آخر، أو حتى مع المستقلين أو إنشاء حزب آخر. قام آخرون من المناصرين لأربكان، بإنشاء حزب جديد هو حزب السلامة فى أواخر 1971، وتحالف هذا الحزب الجديد بمهارة وبمهنية سياسية ورغبة فى الإصلاح المتدرج، مع حزب الشعب وارث الأتاتوركية، وشكلا الوزارة سوياً، وكان أربكان نائب رئيس الوزراء فى ذلك التحالف، وبدأت مناورات وتحالفات بعد سقوط تلك الوزارة، وهو الذى أرسل الجيش التركى إلى شمال قبرص لحماية المسلمين فيها، وإيقاف اضطهادهم بعد الحرب الدامية فى قبرص. دخل أربكان وكبار أعضاء حزبه السجن عدة مرات، ولم يغير ذلك من أهدافه الاستراتيجية، ولكنه غير من تكتيكاته بالتحالفات، سعياً فى حب الوطن وحب الخير، حتى لمن يتنافس معهم، والابتعاد عن العنف وعن الغرب. طرح أربكان من خلال الأحزاب السياسية التى شكلها، مجموعة من القضايا المهمة، لتقدم تركيا ونهضتها، وتقدم الأمة الإسلامية ككل. كان أربكان يدعو من خلال أحزابه السياسية إلى العديد من الإصلاحات، بل كان يدعو إلى استراتيجية متكاملة، فى مقدمة بنودها النهضة الأخلاقية مع النهضة المادية، والدعوة إلى إنشاء أمم متحدة مصغرة للدول الإسلامية، وسوق إسلامية مشتركة، وعملة إسلامية واحدة، وقوة عسكرية إسلامية، وكان يدعو إلى نهضة التعليم، وقيامه على الأخلاق الفاضلة، ولم يكن يستطع هو أو غيره تحت الأتاتوركية المتطرفة، أن يقول أو يكتب أو يشير إلى الأخلاق الإسلامية أو الشريعة، كان ذلك محظوراً، فضلاً عن السير فى طريق النهضة الصناعية والإعلامية مما أغضب الغرب عليه. كل ذلك قد يكون مقبولاً على مضض، ولكن عندما دعا أربكان إلى ضرورة مقاطعة السوق الأوروبية المشتركة، ومحاولة توجيه تركيا إلى بلاد العرب والمسلمين «الأمة»، والتركيز على قضية فلسطين وضرورة عودة القدس، هنا لم يستطع الغرب وأعوانه من المتغربين والمنافسين العلمانيين أن يهضم هذه المناداة بالمقاطعة لأوروبا والتوجه إلى العالم الإسلامى. وأعتقد أن هاتين النقطتين كانتا من بين النقاط التى طرحها الغرب، خصوصا أمريكا، مع أردوغان فى سجنه، عندما كان لا يزال تلميذاً وفياً لأربكان، خرج أردوغان من السجن وهو ينادى بالانضمام إلى أوروبا «الاتحاد الأوروبى» على عكس أستاذه أربكان. لن يصبر الغرب طويلاً على من ينادى بالأمة الواحدة سواء فى بلاد العرب وحدها أو بلاد المسلمين عموماً، أو من ينادى بالقضاء على إسرائيل أو من ينادى بأن القدس عاصمة فلسطين، ومن بين أسباب التوتر والحصار المفروض على إيران حتى اليوم، هو مجرد الإعلان عن ضرورة القضاء على إسرائيل على لسان الرئيس السابق نجاد أكثر من مرة. أما أردوغان فكان تلميذاً نجيباً لأربكان، وظهرت مهارته عندما تولى منصب عمدة إسطنبول فحولها إلى مدينة سياحية نظيفة، وأخرجها من ذل المديونية، شعر أردوغان كثيراً بمعاناه شديدة لإلغاء أحزاب أربكان عدة مرات تلك التى انتمى إليها أردوغان، ولكن حصل تحول شديد فى حياته بعد سجنه سنة 1998 بتهمة إثارة مشاعر الحقد الدينى، وخرج من السجن ليؤسس مع مجموعة المنشقين عن أربكان حزب العدالة والتنمية عام 2001، وكان قد دخل السجن آخر مرة بسبب شعر أنشده يقول فيه: «قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا، وهذا الجيش المقدس يحرس ديننا». أين أردوغان اليوم من هذا الشعر؟ كان الدرس قاسياً فى السجن والاستجابة سريعة نحو الغرب.. وللحديث صلة. والله الموفق