عرفت البروفيسور نجم الدين أربكان -رحمه الله تعالى- منذ سنة 1974، حضرنا مؤتمرات سوياً، وتناقشنا كثيراً فى مستقبل الأمة واستمعت إليه كثيراً فى خطاباته، سواء فى احتفالات فتح إسطنبول (أواخر شهر مايو من كل سنة) أو فى اجتماعات التنسيق الإسلامى بين الحركات الإسلامية، خصوصاً (الإخوان والجماعة الإسلامية بباكستان وحزب السلامة - تركيا، والحركة الإسلامية فى ماليزيا، والحزب الإسلامى أيضاً فيها). كنت أميناً عاماً لمجلس التنسيق الإسلامى، وكان البروفيسور خورشيد أحمد رئيساً للمجلس، فضلاً عن كونه نائب أمير الجماعة الإسلامية فى باكستان. كانت سيرة الرجل، تدل على حكمة وعلم وتجربة وحصافة تمتع بها، وعلم كيف يعمل حتى من قلب النظام العلمانى فى تركيا الذى كان يعادى الدين أصلاً، فضلاً عن الدعوة، والذى سار على نهجه نظام تونس، خصوصاً الحبيب بورقيبة. أسس نجم الدين أربكان عدة أحزاب، ولم يتمسك باسم أى حزب إذا حظرته الدولة التركية. كان من أهم أهداف حزب السلامة، تحقيق السلام والأمن فى تركيا، والسعى إلى تحقيق النهضة الأخلاقية، فضلاً عن النهضة المادية والتقدّم. أما خطط حزب السلامة للنهضة، فكانت تقوم على إصلاح التعليم لتحقيق الأخلاق الكريمة، والاهتمام بحركة التصنيع على جميع المستويات، بما فى ذلك الصناعات الحربية والثقيلة، وتشغيل الشباب وإنقاص نسبة البطالة، والسعى للاكتفاء الذاتى، ومقاطعة السوق الأوروبية المشتركة، وتوجيه الإعلام لنشر ثقافة الأمة والأخلاق الحميدة. كان الحزب كذلك يدعو إلى مناصرة قضية فلسطين، ومناهضة الحركة الماسونية النشيطة فى تركيا، بفعل الحركة الصهيونية، ودور يهود الدونمة فى ذلك. كانت تركيا فى تلك الفترة تقدّس مبادئ «أتاتورك» العلمانية، ويكاد يكون من المستحيل الخروج عليها، وكان «أربكان» يدرك ذلك جيداً، وعمل بالتدريج والصبر للخروج من ذلك، وكان «أربكان» يتقابل باحترام وانفتاح مع الجميع، حتى إنه تحالف مع أهم أحزاب تركيا فى الانتخابات، وكلما كان حزبه يتعرّض للحظر أو للإلغاء كان لا يُشعل معركة بسبب ذلك، بل كان يسعى لإنشاء حزب جديد، حتى لو لم يكن هو رئيس الحزب. دخل السجن عدة مرات، وبعد خروجه من المعتقل كان يبحث فى المتاح من العمل، بعيداً عن الصراع. عرف السجن وعرف الوزارة هو وأعضاء حزبه، ولكن السجن لم يترك عنده عُقداً نفسية، ولا قاده ذلك إلى الاستعلاء على الآخرين، عندما كان نائباً لرئيس الوزراء فى منتصف السبعينات أو حتى رئيساً للوزراء بعد ذلك. أسّس حزب النظام فى أواخر الستينات، ثم حزب السلامة، ثم حزب الرفاه، ثم حزب السعادة، وهنا انشق «أردوغان» وأنشأ هو ومجموعة من تلامذة «أربكان» حزب العدالة والتنمية. كان نواب حزب السلامة يشكلون أكثر من 90% من مثقفى البرلمان، ورغم ذلك كانت معظم الأحزاب العلمانية تتهمهم بالرجعية والتخلف، لكن «أربكان» كان محدد الهدف، واضحاً فى تقدير المصلحة العامة، لم يدخل فى صراع سياسى، بل ظل سعيه فى إطار التنافس واحترام الرأى الآخر، وكان السعى للبناء هو جوهر سياسة «أربكان» والأحزاب التى أسسها هو وأصحابه، حتى عندما منعه النظام الأتاتوركى من الترشح مستقلاً للبرلمان ومن إنشاء حزب، وجّه أصحابه للتقدم بإنشاء حزب السلامة سنة 1972. سعى لمشروعات مشتركة مع الدول الكبيرة فى العالم الإسلامى ومنها مصر، وسعى إلى تحقيق مشرع التعاون بين الجامعات فى الدول الكبار الثمانية فى العالم العربى والإسلامى. وزار مصر عندما كان رئيساً للوزراء وتحمّل إساءات نظام «مبارك» وسوء الاستقبال، ولم يدخل فى صراع أبداً مع مصر والعالم العربى والإسلامى. له تلامذة يجلونه، وبعضهم فى مثل عمره رحمه الله تعالى، عرفت منهم حسن أقصاى، وفهيم أداك، وأصيل أوغوزثرك، وتمل كرم الله أوغلو، ظلوا على خطه، ولم تبهرهم النجاحات المشروطة أو العلاقات المشبوهة. كل هذا لم يؤثر فى بعض تلاميذه ومنهم «أردوغان»، الذى قاده الاستعلاء إلى صراع مع دول مثل مصر، وفتح تركيا إلى أن تكون قاعدة وممراً لبعض الإرهابيين الذين يعبثون فى سوريا والعراق وغيرهما من البلاد، وتركزت طموحاته فى الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبى، واللعب فى إطار بعض المخططات الغربية. فسبحان مغير الأحوال. كان من الممكن أن يسعى «أردوغان» إلى التخلص من اتفاقيات الذل مع إسرائيل والقواعد الأمريكية فى تركيا، بدلاً من الصراع مع بعض الدول العربية أو الإسلامية. النجاح الذى يأتى بالقفز على الثوابت لا يُعد نجاحاً عند العقلاء، بل الثوابت الأخلاقية والقيمية والاستقلالية وخدمة الإنسانية، هى الثوابت العظيمة التى تُثرى التاريخ والحضارة. فهل من عودة إلى الطريق المستقيم؟ وهل من عودة إلى المبادئ التى وضعها «أربكان» ومن معه، بعيداً عن الصراع والتدخل فى شئون الآخرين، خصوصاً دولة كبيرة مثل مصر؟ والله الموفق