«لأجلك يا بهية المساكن يا زهرة المدائن يا قدس يا قدس يا مدينة الصلاة عيوننا إليك ترحل كل يوم تدور فى أروقة المعابد تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد». من منا لم يهتز وجدانه محملاً بمشاعر شتى ومتأججة وهو يستمع لصوت الجبل الشجى «فيروز» وهى تهتف بهذه الكلمات، تخاطب واحدة من أقدس بقاع الدنيا (القدس)، التى لم تقتصر على احتضان طفل المغارة، بل شهدت خطواته وهو يجوب يدعو المأسورين للعتق وللمرضى بالشفاء، ويكسر أغلال المتشددين ويفتح الملكوت بمفاتيح الحب، ويوقع بدمه الثمين وثيقة المصالحة بين الله والبشر، لتتحول العلاقة بينهما من العبودية إلى البنوة، نشيدها اليومى «أبانا الذى فى السموات ليتقدس اسمك ليأت ملكك على قلوبنا، اغفر لنا كما نغفر نحن لمن أساء إلينا، يؤسس للبذل والعطاء فتصير الأرض سماءً». لذلك كان شغف المصريين بالحج إلى تلك الأراضى يجوبون أرجاءها يتتبعون رحلة أسبوع الآلام التى تنتهى بإعلان الانتصار على الموت والتحرر من قيود امتدت طويلاً، يغتسلون من آثامهم، ويعيشون عهداً جديداً تأسس قبل ألفى عام ويزيد، ويعودون أكثر قوةً، وإيماناً، وقد لمسوا كيف استقبلهم إخوتهم الفلسطينيون سكان القدسالشرقية، وكيف يعتبرون هذه الزيارة السنوية دعماً معنوياً واقتصادياً وإنسانياً لهم، يستدفئون بهم من وحشة الانقطاع، ويؤكدون على مقاومة تهويد المدينة، فى مواجهة مخططات صهيونية لا تنقطع تسعى لتشويه معالمها العتيقة، لولا عيون العالم المفتوحة التى تترجمها أرتال الحجيج الدورية. ونكتشف أن القول بأن زيارة القدس «تطبيع» تفتقر لأبجديات الواقع والمنطق وتبتعد كثيراً عن دلالاتها، ويقف وراءها صراع أيديولوجى فارقه التاريخ ووقع فى فخ الجمود، من جماعات تقف بعيداً عن متغيرات اللحظة وأدواتها، تخضع الثابت الإيمانى للمتغير السياسى فى مزايدة لا محل لها. وقد نفهم هذا الموقف فى حينه حين كانت جروح الانكسار غائرة وكانت المقاومة تستنفر طاقات الحشد، أما وقد استرددنا كرامتنا، فى ملحمة أكتوبر 73، ووجد أطراف النزاع الأساسيون بينهم مساحة للحوار، وطرح على موائدهم حل الدولتين، وجرت فى مياه العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية مياه كثيرة، فما بالنا نزايد على سعيهم للتفاهم، ونعاقب أنفسنا ونحرم أجيالنا من حق إنسانى ودعم روحى فى وقت تجتاحنا فيه رياح الإلحاد والتشكيك فى قواعدنا الإيمانية. وعلينا أن نواجه أنفسنا بمصداقية وشفافية كيف يقبل الضمير المسيحى أن نصدر حكماً بالإعدام الروحى على من يخالف «تعليمات» عدم الزيارة، من الذى يملك أن يحرم من ذهب إلى الأماكن المقدسة من أن يتقدم للأسرار المقدسة التى قال عنها السيد المسيح (له المجد) إنها تعطى لغفران الخطايا، وحياة أبدية لمن يتناول منها، أى جسارة تلك التى تمنع الرحمة عن مستحقيها، ليدافع السياسيون المنظرون عن قرار المنع لكن أن تنساق لهم الكنيسة وتصر على خلط السياسة بالدين بتبريرات متهافتة فهو أمر غير مقبول، الكنيسة تسعى لخلاص النفوس، ومملكتها ليست من هذا العالم وسلطانها موجه لإعلان الملكوت، وإنارة الطريق نحو الأبدية، وليس لها أن تغازل السياسة أو تشتبك معها، وقد حان وقت التفرغ لدورها الروحى ومقاومة إغراءات ندّاهة السياسة، فما زال الحصاد كثيراً والفعلة قليلون. وما زالت نفوسنا تهفو لمناظرة الأماكن التى شهدت مسيرة المسيح وتدبيره الخلاصى وما زالت فيروز تشدو: «سأدقّ على الأبواب وسأفتحها الأبواب وستغسل يا نهر الأردن وجهى بمياه قدسية وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية الغضب الساطع آتٍ بجياد الرهبة آتٍ وسيهزم وجه القوّة البيت لنا والقدس لنا وبأيدينا سنعيد بهاء القدس بأيدينا للقدس سلام آتٍ».