إن التفكير المنهجى الذى يتبعه «ديكارت» هو من أجل الهروب من دوامة الخداع والتضليل أياً كان احتمال مصدرها، وهو يشك فى القديم ليبحث عن يقين جديد، ولذا فإن الشك المنهجى ليس شكاً مطلقاً من أجل التشكيك المغرِض، واللاأدرية المعرفية، وفوضى الأفكار، وفوضى الواقع، بل كل ما يطلبه هو الدليل الرصين الحاسم ضد منظومة فكرية راسخة فى بنية تضليلية متكاملة الأركان! ومن هنا فهو ليس شكا مرَضياً، ولا شكاً فوضوياً، وليس تردداً بين نقيضين لا ترجيح لأحدهما على الآخر. إنه فحسب خطوة على «طريق» نحو الحقيقة القائمة على الأفكار الواضحة والمتميزة لا على أقوال القدماء ولا سلطة قياس الحاضر على الماضى! ويجب عدم الخَلْط بين الشك المنهجى والإلحاد؛ فالإلحاد خاص بإنكار العقيدة الدينية، وموقف الملحد هو موقف المنكر بيقين لا موقف المتشكك الباحث عن البرهان المبين. ومن المعروف أن الشك على أنواع؛ أشهرها الشك المذهبى أو المطلق، وهو شك عقيم مرفوض قال به المذهب الشَّكِّى Skepticism، ويتخذ أنصاره الشك منهجاً فى التفكير ومذهباً فلسفياً فى الحياة؛ فهم يؤكدون عدم إمكانية معرفة حقيقة الأشياء كلها؛ ويؤكدون عجز العقل الإنسانى عن معرفة أى أمْرٍ مهما صَغُر معرفة يقينية؛ لأن الحواس عاجزة ولا تقدم لنا الحقيقة، بل المظهر فقط، والحواس غير متفقة فيما بينها فى الحكم على الأشياء، وفى أحيان كثيرة تقدم لنا الكبير على أنه صغير مثل الشمس والقمر. ويختلف الشك المنهجى كخطوة علمية عن الشك المطلق؛ فالأول مؤقت، وهو وسيلة لا غاية، لأنه ربما يعقبه التوصل إلى الحقائق، والثانى دائم وتام ودائرة مغلقة. وقديماً استخدم سقراط وأرسطو -من أجل الوصول إلى المعرفة- نوعاً قريباً منه فى دَحْض شبهات السوفسطائيين القائلة بالنسبية المطلقة. واستخدم الشك المنهجى كبار المفكرين الدينيين، مثل القديس أوغسطين (ت 430م) الذى مر بمرحلة شكية قبل أن يصل إلى منظومة دينية جديدة بمقاييس عصره. ويُعد «أبوحامد الغزالى» نموذج الشك المنهجى فى الحضارة الإسلامية فى كتابه «المنقذ من الضلال»؛ لأنه حدد معالمه، وعاش تجربته كاملة معايشة واقعية، على نحو مؤقت، ثم وصل إلى اليقين على طريقته. وقد سبقت مرحلةُ «الشك المنهجى» عند الغزالى مرحلةَ «إحياء علوم الدين»، وكأن الشك المنهجى مرحلة ضرورية تسبق الوصول إلى مرحلة التجديد، وكأن عنوان هذه المقالات يطل من جديد فى متنها (الشك المنهجى وتأسيس عصر دينى جديد). وفى عصر النهضة الأوروبية كان من أبرز دعاة الشك: الفيلسوف الفرنسى Montaigne «مونتانى» (1533 - 1592م)، وكان له دور فى زعزعة اللاهوت والكهنوت. وفى القرن السابع عشر جاء «ديكارت»، والشك عنده منهجى وليس مذهبياً، والشك المنهجى الديكارتى على مستوى المنهج كان شاملاً، لكنه على مستوى المذهب استثنى ما يشاء (الدين المسيحى، الأخلاق، النظام السياسى)، وهنا إحدى نقاط ضعف مذهب ديكارت. ومن قبل الفلاسفة جميعاً استخدمه أبوالأنبياء ضد عقائد قومه حتى تظهر معالم عصر دينى جديد. ويمكن القول إن الشك المنهجى موقف علمى رصين، بينما الشك المطلق موقف متهافت هش يعجز عن تكوين معرفة علمية، ويعكس حالة من التدهور العامة فى التفكير. ويمكن بيان تهافُت حُجَج الشكية الجذرية بكل سهولة، لكن يكفى فى هذا السياق بيان التناقض الجوهرى فى أساس موقفها العام؛ ومن ثم فإن إظهار هذا التناقض يهدم كل الحجج الشَّكِّية المبنية عليه، ومن ثم تنهار الفلسفة الشَّكِّية كلها. ويتمثل هذا التناقض الجوهرى فى أن الشكاك الجذريين «موقنون» من أن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى علم يقينى. والتناقض هنا «أنهم موقنون» من سلامة موقفهم الشكى من إنكار المعارف اليقينية؛ مع أن موقفهم هذا ينطوى على معرفة يقينية بعدم يقينية المعرفة! فهم يعتبرون موقفهم الشكى «يقينياً» على الرغم من أنهم ينكرون المعرفة اليقينية! (أزعم أن هذه حجة جديدة ضد الشكية الجذرية). وليس معنى هذا النقد فى تصورى أن القرآن يرفض الشك بكل أنواعه ومستوياته، إنه يرفض فقط الشك بصفته مذهباً شاملاً ومتكاملاً وجذرياً، لكنه يدعو إلى الشك المنهجى بصفته مرحلة من مراحل التفكير من أجل الوصول إلى الحقيقة. ويتجلى هذا بوضوح فى عرض القرآن الكريم لقصة «إبراهيم» عليه السلام. إذن لا يوجد فى الشك المنهجى أى تثريب على من يفعله فى القرآن الكريم، بل هو موضع تبجيل وتقدير شديدين كخطوة على طريق موصل إلى الحقائق؛ حتى لا يظل الإنسان مغفلاً أو غافلاً. ولست بحاجة إلى أذهب بعيداً؛ فالقرآن واضح جداً ومباشر فى هذا الأمر، أليس هو كتاباً جاء بلسان عربى مبين؟ ألم يقل الله عنه: «قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ»، (المائدة: 15)؟ فما هو إذن هذا الموقف المبين الذى أوضحه القرآن الكريم من التفكير المنهجى. ولماذا يُعد الشك فى القديم إحدى خطواته الضرورية التى تسبق الخطاب الدينى الجديد؟