يقيمون المؤتمرات ويطلقون التصريحات ولا صوت يعلو فوق الأصوات المطالبة بتجديد الخطاب الدينى، وهو شعار ينم عن عدم دقة وعدم وعى، ولكن أصحاب هذا الشعار يتخيلون أن مشكلة التعليم فى مصر، بما فيها التعليم الأزهرى، ستحل بتجديد الخطاب الدينى المزعوم، وكأن «مصيبتنا» فى التعليم ستنتهى إذا حدث التجديد الذى لا يستطيعه المطالبون به. فى المؤتمر الذى أقامه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية أعلن رئيس الوزراء عن إنشاء هيئة لتطوير الدعوة، إذن لا أحد يدرك أبعاد الكارثة، وطالما كان هناك عجز فى الفهم والتصور والرؤية فسنبقى فى نفق مظلم وستبقى مصر تحمل جهلاً على جهل ولا تنجب إلا الضعف والفقر الذى يشتد عوده وتحمل ذريته جينات الفساد أو غدد التطرف التى تبقى مشاعل الإرهاب موقدة ومستعرة، ونحن ما زلنا نتحدث عن تجديد الخطاب الدينى ولا عزاء للوعى. التعليم بداية ونهاية، فإذا أردنا بداية فهى التعليم، وإذا لم نستطع المواجهة ولم تكن لدينا إرادة أو حلول فلنبقى عند نقطة النهاية وسوف يجدد الإرهاب من نفسه ويفاجئنا ويدهشنا بظلامه. إذا كنا نعتقد أن خطباء المساجد وكتب التعليم الأزهرى وما فيها ومن يقومون بتدريسه هى فقط الكارثة فنحن بلا إدراك. من يضع المناهج فى التعليم بأنواعه يحتاج إلى تعليم، ومن يريد أن يرى أى مستوى من الضعف وصلنا إليه فسوف يرصدها فى مستوى اللغة العربية عند المسئولين وعند المحامين ووكلاء النيابة التى كانت مرافعاتهم فى الماضى قطعاً أدبية ونموذجاً فى القوة والبلاغة، وكيل النيابة الذى حقق فى اتهام طه حسين بالكفر على كتابه «الشعر الجاهلى» كتب مذكرة بها من الرقى والقوة، ما يفوق أفضل نقد أدبى لهذا الكتاب.. خطب الرئيس عبدالناصر والرئيس السادات، وهما من خريجى الكليات العسكرية، كانت تؤكد على مستوى ونوعية التعليم الذى ذهب ولم يعد. هذا على مستوى اللغة، أما التعليم على المستوى الثقافى وطريقة التفكير والعقلية الناقدة الموضوعية فق أصبح «هباءً منثوراً» اللهم إلا «من قلة مندسة» أعطاها الله منحة خاصة وظروفاً أتاحت لها الاختلاف. ورغم أن التعليم الأجنبى يتفوق على التعليم الحكومى والتعليم الأزهرى ولا توجد مقارنة فإنه علم منقوص، والتميز فى هذا التعليم على مستوى اللغات الأجنبية والرياضيات والمادة العلمية لا يوازيه تميز اللغة العربية وفى الدراسات الاجتماعية لأنها مناهج تابعة للوزارة وكأن النجاة من إعاقة التعليم الحكومى مستحيلة. أما أصحاب النوايا الطيبة بندائهم الشهير «تجديد الخطاب الدينى» باعتبار أن المشكلة كامنة فى الأفكار التدميرية فقط وهى أفكار موجودة بقوة فى أغلب الكتب التى تحمل صفة الدينية أو الإسلامية هل يدرك أصحاب هذا الشعار أن هناك مثلاً معهد إعداد الدعاة، وهو كارثة فى حد ذاته، فكل من يبحث عن وجاهة الشهادة، وكل من يطمح فى الشهرة باعتبار أن الدين أصبح «بيزنس» يلتحق بهذا المعهد ويصبح خطيباً وعالماً فى الدين. مرة أخرى التنوير الذى تحتاجه مصر منظومة كاملة لن تصنعها هيئة دعوة ولن يتحمل مسئوليته الأزهر. التنوير الذى يغلق كل المنافذ الجهل والأفكار المدمرة التى يحسبونها حقيقة. التنوير الذى يصنع فارقاً فى التقدم وفى العمل والإدراك مسئولية واتجاه دولة لديها من التصورات والخطط والأهداف والتجارب المتحضرة ما يجعل لديها جرأة ومقدرة على التغيير والإصلاح ولا تكتفى بالإصابة بقصر النظر وحصر المشكلات فى نوعية تعليم كارثى كاشف لحالة التردى والتراجع، ولكن هذا التعليم هو «حبة» فى عقد التعليم متعدد الكوارث والذى رسخ الضعف والتراجع والتطرف والبطالة. مشكلات مصر تصب فى نهر واحد هو الجهل، وكوارث التعليم لن تحلها ندوات وتصريحات ومطالب ونوايا، ولكنها مسئولية الدولة بكل ما أوتيت من قوة ووعى وإرادة وإدارة. التعليم لا بد أن يكون مشروع الدولة الرئيسى، وعليها أن تبدأ بمنهج وطريقة تفكير فى الاتجاه الصحيح. من كان منكم على جهل فليس له إلا العلم مخرجاً.