«أيام الإز».. هكذا هتف الدبلوماسى الروسى السابق فى السفارة السوفيتية بالقاهرة عندما جمعنا لقاء منذ سنوات للمرة الأولى بعد تفكك الاتحاد السوفيتى، وكنت أحدثه عن ذكريات الأيام الجميلة لعلاقات مصر بالاتحاد السوفيتى وإقامته فى القاهرة التى أحبها كثيراً. لا ينسى مصرى واحد يحب وطنه فضل الاتحاد السوفيتى فى المعارك الرئيسية التى خاضتها مصر فى مرحلة التحرّر الوطنى وبناء قاعدة التنمية المستقلة. صحيح أن لغة المصالح تشير إلى أن الاتحاد السوفيتى حقق بدوره إنجازات استراتيجية هائلة فى الحرب الباردة بفضل علاقته بمصر، لكن هذه اللغة لا تستطيع أن تمنعنا من الشعور بالعرفان عندما نتذكر الأيام الصعبة التى انتصرنا فيها، وكان السوفيت إلى جوارنا. لقد ساندنا الاتحاد السوفيتى فى كل معاركنا الكبرى، بدءاً بمعركة التسلح، ومروراً بمعركة بناء السد العالى، وكذلك بناء القاعدة الصناعية الكبرى لتحقيق انطلاقة التنمية فى مصر، ويكاد الاتحاد السوفيتى على هذا النحو أن يمثل فى خبرة العلاقات الدولية المصرية مقلوب الخبرة الأمريكية، فقد رفضت الولاياتالمتحدة تسليح مصر، فسلحها الاتحاد السوفيتى، وسحبت عرض تمويل السد العالى فساند الاتحاد السوفيتى مصر بالخبرة الفنية والقروض الميسرة ولم تمول مشروعاً صناعياً واحداً، فساعد الاتحاد السوفيتى مصر فى بناء قاعدتها الصناعية الكبرى. لم تخلُ العلاقات المصرية - السوفيتية من أزمات حتى فى ذروة ازدهارها، وكانت أولى هذه الأزمات بسبب الوحدة المصرية - السورية، فقد كان لدى القيادة السوفيتية آنذاك، اعتقاد خاطئ بأن هذه الوحدة قد أجهضت مستقبلاً شيوعياً لسوريا، وكذلك بسبب اعتقال «عبدالناصر» للشيوعيين المصريين الذين تفهموا الموقف السوفيتى من الوحدة، وحدثت ملاسنات علنية بين القيادتين السوفيتية والمصرية، وحافظ «عبدالناصر» كعادته على الكرامة الوطنية المصرية، لكن جوهر العلاقة طغى، وعادت الأمور إلى مجاريها، وتوج هذا بزيارة «خرشوف» لمصر فى 1964، بمناسبة تحويل مجرى نهر النيل الذى احتفلنا فى العام الماضى بعيده الخمسين، وتم الإفراج عن المعتقلين الشيوعيين. أما الأزمة الثانية فقد ارتبطت بإنهاء «السادات» مهمة الخبراء السوفيت فى مصر، وكانوا قد توافدوا عليها فى أعقاب هزيمة 1967 بأعداد كبيرة، للمساعدة فى عملية إعادة بناء القوات المصرية المسلحة، ولعبوا دوراً عظيماً فى هذه العملية التى استندت أساساً إلى سواعد المصريين وإرادتهم، غير أنه يبدو أن بعضهم كانت لديه ملاحظات انتقادية صارمة على الأداء، مما أوجد توتراً فى العلاقة بينهم وبين نسبة لا بأس بها من الضباط المصريين، وإن كنت أعتقد أن السبب الأصيل فى إنهاء مهمتهم هو محاولة «السادات» تقديم أوراق اعتماده إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقد أشار إلى هذا كاتبنا الكبير الراحل أحمد بهاء الدين، فى كتابه الذى تناول فيه حواراته مع «السادات»، وهو ما يؤكده تعبيره الشهير القائل بأن 99 فى المائة من أوراق اللعبة بأيدى الولاياتالمتحدة، وروى «بهاء الدين» كيف كان «السادات» مبهوراً بإيران عندما التقاه بعد زيارة لها قابل فيها شاه إيران، وعلق «السادات» عليه بقوله إن هذا الرجل هو الذى يفهم حقيقة العلاقات الدولية، التى تشير إلى أن العالم لا توجد فيه إلا قوة عظمى واحدة. وبدأ عهد «مبارك» بمؤشرات انفتاح إيجابية على الاتحاد السوفيتى غير أن «جورباتشوف» تكفّل بتصفية معنى الاتحاد السوفيتى ذاته بسياساته التى بددت القيمة العملية لوجود قطب عالمى ثانٍ موازن، وانتهت هذه السياسات إلى تفكك الاتحاد السوفيتى إلى خمس عشرة دولة، ناهيك عن توجّه التبعية المطلقة للولايات المتحدة الذى اتبعه «يلتسين» أول رئيس لروسيا الجديدة، الذى أدى إلى تدهور حاد فى قوتها ومكانتها إلى أن وصل «بوتين» إلى قمة السلطة واضطلع بمهمة إحياء وطنه واستعادة قوته ومكانته، وهى مهمة حقق فيها من الإنجازات ما يشبه المعجزة. هذا هو الرئيس الروسى الذى زارنا منذ أيام، والذى تذكرنا ممارساته الخارجية بالسياسة السوفيتية فى عهد القوة العظمى، وقد كان للزيارة جدول أعمال بالغ الأهمية يتضمّن بناء المحطة النووية المصرية لتوليد الكهرباء وتعزيز التعاون العسكرى والاقتصادى، بأبعاده المختلفة صناعياً وتجارياً وسياحياً، وكذلك التعاون فى مجال مكافحة الإرهاب الذى اكتوت روسيا بناره كما نكتوى نحن الآن، وهى قضايا مهمة لمصر ولروسيا معاً، خاصة فى الوقت الراهن الذى يحاول فيه الغرب فرض حصار على القوة الروسية الصاعدة، بحجة الموقف الروسى من تطورات أوكرانيا، وتستطيع مصر أن تلعب دوراً تجارياً فى تخفيف هذا الحصار تستفيد منه فى الوقت نفسه، وقد تم التوصل فى هذا الصدد إلى اتفاقات محدّدة ينتظر أن تبدأ ثمارها قريباً. ومن الطريف أن عواجيز الفرح فى الداخل والخارج قد تصدوا على الفور للتشكيك فى نتائج الزيارة من منظور أنها مجرد كلام فى الهواء، وكأن الإنجازات تولد مكتملة النمو، وكأن رئيس دولة كبرى مرشحة للارتقاء قريباً إلى مصاف الدولة العظمى لديه من الفراغ ما يكفى فى هذا الوقت الذى تواجه فيه بلاده تحديات خطيرة، كى يأتى للتهريج فى مصر، وعموماً فإن هذا الموقف من زيارة «بوتين» جزء من الموقف العام لعواجيز الفرح الذين لا يريدون أن يعترفوا بأى إنجاز تحققه مصر، متخيلين أن الواقع الافتراضى الذى وضعوا أنفسهم فيه يعنى أنهم على صواب وأن المستقبل لهم وحدهم، ولهؤلاء أقول يُستحسن أن تموتوا بغيظكم.