عمر كل منهما تجاوز الثمانين، يجلسان منذ أن بلغا سن المعاش إلى جوار بعضهما البعض فى شارع قريب من «عمرو بن العاص» بمصر القديمة وبينهما «شيشة». يتسامران.. يتحاكيان.. يضحكان ضحكات مرتفعة مخلوطة بسعال، وهما يتذكران الماضى وذكرياته الجميلة. يقول «إبراهيم» لابن خاله «أحمد»: «فاكر لما كنا بنحضر حفلات فريد الأطرش فى سينما قصر النيل.. فاكر التذكرة اللى بجنيه».. يرد «أحمد»: «يااااااه فكرتنى بالزمن الجميل.. مش الأغانى اللى بنسمعها دلوقتى بتاعة حبة فوق وحبة تحت». يضحك «إبراهيم»: «مين اللى بيغنى الأغنية دى يا حاج أحمد؟». يرد «أحمد»: «والله ما عارف». ثم يواصلان الضحك ويتبادلان «لىّ الشيشة». راديو صغير يصدح بأغانى «أم كلثوم» هو الرفيق الثانى للصديقين بعد «الشيشة». تغنى «الست» فيجذب صوتها المارة الذين يجلسون إلى جوار «عم إبراهيم» و«عم أحمد»، ويسمعون منهم حكايات الماضى: «أنا اتولدت وعشت هنا، عندى 88 سنة وعمرى ما فكرت أخرج بره مصر القديمة، الدنيا اتغيرت، صحابنا ماتوا، والعشش بقت عمارات، لكن أنا حنينى وحبى هيفضل لمصر القديمة»، قالها الحاج «إبراهيم» بعد أن أخذ نفساً عميقاً من الشيشة، التى لم تفارقه طيلة 70 عاماً: «أول مرة شربت دخان كان (تمباك) من 70 سنة، كان عندى ييجى 17 سنة، بعد كده اتجهت للمعسل ومن يومها ماسبتوش». رحلة كفاح وتعب يرويها الصديقان: «إحنا تعبنا واتحملنا كتير، من وإحنا أطفال كنا نشتغل فى الطينة والميه ونقف فى عز التلج، نلبس خفيف ونقف على أرض ساقعة، نشمر إيدينا ونشتغل فى ميه متلجة ونغنى، كنا فرحانين إننا بنشقى، كانت مصانع الفخار هى المدرسة اللى اتعلمنا فيها، واتخرجنا منها». أمام عدد من الأوانى الفخارية و«القلل» يجلس «إبراهيم وأحمد» يبيعان ما يكفى لسد احتياجاتهما، لكنهما غير مقتنعين بالفخار الحديث: «ده شغل مصانع مش ملذوذ كويس، زمان كنا بنعمل الحاجة على إيدينا بتطلع زى الفل ورغم التعب والشقا اللى كنا فيه كنا بنروح نضحك ونهزر ماكانش الواحد شايل هم حاجة». ارتباط الصديقين بزمن الفن الجميل لا يقتصر على سماع أغانى «كوكب الشرق»، فهما لا يشاهدان فى التلفاز سوى الأفلام الأبيض والأسود: «نتفرج على شادية، فاتن حمامة، فريد الأطرش، هو ده اللى بنفهم فيه، إنما أفلام دلوقتى قلة قيمة».