نحتاج جميعاً إلى هدنة؛ نستعيد فيها أنفاسنا، ونداوى جراحنا.. أتمناها خالية من كل ملامح التوتر والصراعات.. هدنة يراجع فيها كل طرف مواقفه وآراءه بهدوء، لعل إجازة العيد -التى تطل علينا- تكون فرصة جيدة لعقد هذه الهدنة. أظنها المطلب الوحيد الذى يمكن أن يجتمع عليه كل المواطنين والقوى السياسية والتيارات الفكرية وغيرها من الكتل والائتلافات والمنتديات والجمعيات.. نحتاج إلى هدنة حقيقية تتوقف فيها أجهزة الإعلام عن تناول الموضوعات الساخنة والدافئة لمدة خمسة أيام فقط: من الخميس إلى الثلاثاء. الهدنة -التى أدعو إليها- تلزم جميع السياسيين بوقف التصريحات تماماً، كما أتمنى أن تشهد تراجعاً كبيراً فى القذائف الإلكترونية التى تلقى فى الوجه والظهر على حد سواء، وليطمئن الجميع إلى أن هذه الهدنة ليست مصادرة لحق أحد فى النقد أو التحليل، أو حتى الإضراب والاعتصام والتظاهر، وإنما تؤجل ذلك كله إلى ما بعد انقضاء الهدنة. «اللهم إنى على هدنة» عبارة تجيب بها كلما حاول أحد استدراجك لأحاديث أو مناقشات تفسد المودة بينكما؛ ذلك أننا لا بد أن نعترف أن تكرارنا جميعاً للقول الشهير: «اختلاف الرأى لا يفسد للود قضية»، لا يعنى أننا بلغنا هذه الدرجة الرفيعة من النضج والتجرد وإدراك قيمة الاختلاف. تمتد دعوتى بالهدنة إلى سائر البلطجية وقطاع الطرق.. مؤكد أنكم أيضاً بحاجة إلى بعض الراحة.. ألستم من بنى آدم مثلنا؟ فلتتمردوا على محرضيكم ومموليكم ولو لعدة أيام، فأنتم -ولا حسد- قد جمعتم خلال الشهور العشرين التى أعقبت الثورة ما يكفيكم بقية عمركم، لعل هذه الهدنة تكون فرصة للتوبة قبل فوات الأوان! نعم، فأنتم تغامرون كثيراً، وتعرضون حياتكم للخطر خلال أدائكم لتلك المهام المروِّعة التى تكلَّفون بها! يمكن أن يأتى أجل أىٍّ منكم على يد شرطىّ يؤدى واجبه أو حر يدافع عن نفسه.. جربوا الهدنة أولاً، مع دعائى أن تتحول إلى توبة فى أيام التوبة والغفران بأمر الله. أما الذين يستثمرون فى التخريب، فلن أوجه لهم كلاماً، بل أتوجه إلى الله بالدعاء بأن يقينا شرهم ويهدى من بقى فى قلبه ذرة من رحمة. ولكن يبقى السؤال الملح: ماذا عسانا نفعل خلال هذه الهدنة؟ أنا لا أمزح، وأدرك أن هناك من اعتاد الصراع والصراخ إلى درجة يجد معها صعوبة فى الحصول على هدنة! إليكم بعض الأفكار التى أظنها مناسبة لشغل أوقاتنا؛ ولنبدأ بصلة الأرحام وزيارة الأهل والأقارب، وهو أمر محمود يتميز المصريون بالتمسك به حبًّا وطاعة. التعرف على الجيران وفتح جسور المودة معهم، وهى فضيلة تقى المجتمع العديد من المشكلات التى نتجت عن تفكك مفتعل روَّج له مُدَّعو المدنية باسم احترام الخصوصية والاستقلال، ففقدنا ركيزة مهمة من ركائز التراحم والاستقرار. ولتكن القراءة الأدبية هى ثالث وسائل التسلية الإيجابية، فقراءة الشعر والروايات وسيلة رائعة للانشغال بتجارب الآخرين للاستفادة بها وتحقيق واحد من أهم أهداف الهدنة. أما الفكرة الرابعة، فهى التمشية التى تكاد تكون مستحيلة فى غير أيام الإجازات، فلننتهز الفرصة ونتذكر أن الحركة بركة، خصوصاً بعد تناول الفتة! نحتاج جميعاً إلى الهدنة، ويحتاج إليها أطفالنا الذين يحرمون كثيراً من ضحكاتهم البريئة، فلنحتضنهم، ونعلمهم الأخلاق والحكمة والمودة. فى النهاية، أعترف أنى أخطأت فى حساب أيام الهدنة الخمسة، عندما ذكرت أنها تنتهى الثلاثاء، ربما لأنى أتمنى ألا تنتهى الهدنة قبل أن نعى بحق أن الاختلاف نعمة، وأن الصراعات كلها مفتعلة، والفاعل معلوم! تذكروا: اللهم إنى على هدنة! [email protected]