كان الإخوان آخر فصيل سياسى يعتنق الديمقراطية ثم ينقلب عليها، ويحرق المراكب التى أوصلته إلى شواطئها، فيمتنع على من هم دونهم أن يلحقوا بهم، أو حتى «يتداول» معهم الأدوار. والحق أن الإخوان ليسوا «بدعاً» فى ذلك، فقد سبقهم «النازيون» و«الفاشيون» فى ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، ما إن استقروا فى مقاعدهم حتى أحرقوا الجسور الخشبية التى حملتهم إلى سدة الحكم، حتى لا يستخدمها غيرهم! ولولا ثورة شعبية «خلعت» الإخوان لبقوا -كما أرادوا- 500 عام مما يعدون أو يزيد! ليس الإخوان وحدهم دون بقية تيار الإسلام السياسى هم الذين امتطوا ظهر الموجة الثورية فى 25 يناير وهى تقترب من أهدافها، تعلق معهم بذيل الموجة فصيل دينى آخر هم السلفيون، كانوا حتى ذلك الوقت فى حالة صدود عن السياسة، يرجحون -لذرائع مختلفة- العمل الدعوى والاجتماعى عن الولوج إلى العمل السياسى والحزبى. وكان بعضهم -حتى عشية الثورة- يتخذ موقفاً مناوئاً للثورة، ويتستر وراء قاعدة فقهية تقول إن الاصطفاف وراء «حاكم غشوم»، خير من الانخراط فى «فتنة تدوم»! والفتنة هى المقابل الفقهى للثورة. لا يُعرف عن السلفيين أى حضور سياسى كبير قبل «فتنة» 25 يناير، وآخر «تنهيدة» سياسية ندت عنهم صدرت عن السلفيين فى الإسكندرية، النواة التى «تخلق» حولها حزب النور فيما بعد، كانت دعوة إلى مقاطعة الانتخابات التشريعية الأخيرة لنظام مبارك، وكان الخطاب السياسى السلفى التقليدى قبل ثورة يناير يرفض العمل السياسى وما ينطوى عليه من مظاهر التعبير السلمى كالتظاهرات والإضرابات والاعتصامات، ويجدون فيها خروجاً على «ولى الأمر» المسلم وعصياناً له، ويرفض السلفيون الديمقراطية باعتبارها نظاماً مستورداً من الغرب «الكافر» ومخالفاً للشريعة الإسلامية، وظل الأمر كذلك حتى قذفت الثورة بالتيار السلفى فى خضم مرحلة جديدة قررت فيها جماعات وحركات سلفية «تأطير» نفسها فى قوالب حزبية والدخول فى قلب التجربة السياسية، بعدها صار السلفيون لاعباً سياسياً جديداً تقاسم مع الإخوان المسلمين الأصوات «المحافظة» فى المجتمع، لكنهم كانوا أشد بأساً فى الدفاع عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وفى مناهضة فكرة الدولة المدنية وألد خصومة مع التيارات الليبرالية الأخرى، ويقف السلفيون -سياسياً ودينياً- على يمين جماعة الإخوان المسلمين. واللوحة السلفية المعاصرة تبدو كرقعة الموزاييك تتوزع مكوناتها سياسياً بين مدارس وتيارات وجمعيات ودعاة وأحزاب لا يجمعها سوى الروافد الدينية السلفية، والمواقف الفكرية المشتركة من الديمقراطية والليبرالية والآخر «المختلف» دينياً (الأقباط) أو مذهبياً (الشيعة) أو نوعياً (المرأة) أو سياسياً (الليبراليون)، وتتراوح مواقف أجنحتها المختلفة بين «موادعة» الحاكم وتأثيم خصومه ومعارضيه والخارجين عليه، إلى «تكفير» الحاكم وعزله والحرب عليه وتمثلها جماعات السلفية الجهادية وآخر عهدنا بها كان دعوتها إلى الثورة والعصيان المدنى فى 28 نوفمبر 2014 الماضى التى تمخضت فولدت فأراً، وينطوى تحت جناح هذا التيار جماعات «داعش» و«القاعدة» وأنصار «بيت المقدس» و«بوكو حرام» ومن اختار قِبلَّتهم، والسلفية السياسية «جديدة» فى مصر، لكن «التيار السلفى» «قديم» نسبياً، ويضرب بجذوره إلى السنوات الأولى من القرن العشرين التى شهدت ظهور جمعيات سلفية مختلفة، حازت شهرة وأصابت انتشاراً مثل جمعية «أنصار السنة» «والجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة» «والجمعية الخيرية الإسلامية». وقد استقبلت الحياة السياسية بعد الثورة 14 حزباً دينياً، بعضها نشأ فى كنف الإخوان المسلمين مثل حزب «الحرية والعدالة» المنحل، وبعضها الآخر مثل حزب «النور» كان قريباً من الدعوة السلفية فى الإسكندرية، أو قريباً من السلفية الحركية فى القاهرة مثل «حزب الأصالة» والجماعات السلفية الجهادية التى راجعت مواقفها وتوجهاتها مثل الجماعة الإسلامية وحزبها «البناء والتنمية»، والجهاد الإسلامى وحزبها «السلامة والبناء»، فضلاً عن أحزاب دينية صغيرة أخرى تتلمس طريقاً نحو «شرعيتها»، أو إن شئت نحو «شعبيتها»! وقد اختبأ السلفيون فى عباءة المصريين «الطيبين» الواسعة، وطابت لهم السكنى فى «المنطقة الرمادية» لا يبارحونها، وعولوا على الخطب والمواعظ والدروس العلمية والمساجد فى نشر أفكارهم وتجميع «مريديهم»! وقد وجدت السلفية السياسية ضالتها المنشودة فى ثورة 25 يناير، فانحاز إلى الثورة فى أيامها الأخيرة، وبعد ما ظهر مآل النظام الفاسد، دعاة سلفيون مستقلون أمثال المشايخ محمد حسان وأبوإسحق الحوينى ومحمد حسين يعقوب.