تهب علينا هذه الأيام نسمات خير، إذ يجمع الزمان بين مولد رسولين عظيمين من أولى العزم من الرسل، هما «محمد وعيسى» عليهما السلام.. جاءت هذه الأيام لتجمع بين مولديهما، كما جمعت النبوة والرسالة بينهما. فى مثل هذه الأيام وُلد عيسى صلى الله عليه وسلم، بمعجزة إلهية عظيمة، حيث ولد من السيدة العظيمة مريم العذراء دون أب.. فكذّب أكثر بنى إسرائيل المعجزة وصدّوا عن رسالته وحاربوه واضطهدوه وحاولوا الفتك به.. ولكن أمة محمد التى لم تعش الحدث بأشخاصها وأجسامها، صدّقت المعجزة وآمنت بنبوته وبأن مريم العذراء صدّيقة عظيمة. وهذا محمد صلى الله عليه وسلم، كانت ولادته أهم حدث فى أمة العرب قاطبة، فهو الذى حوّلها من أمة خاملة ضائعة مستعبدة إلى أمة ذات شأن ورسالة، تسود بقرآنها ورسالتها العالم كله. «محمد والمسيح» عليهما الصلاة والسلام، شقيقان جمعتهما النبوة والرسالة.. فكلاهما يحب الآخر ويصدقه.. وهما أقرب الرسل إلى بعضهما البعض فى كل شىء.. فهذا هتاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، للدنيا كلها: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم فى الأولى -أى الدنيا- والآخرة.. قالوا: كيف يا رسول الله؟.. قال: الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وليس بيننا نبى». والإخوة لعلات هم الأشقاء من أب واحد وأمهات شتى.. وهذا يعنى توحّدهم فى أصل الرسالة، وهى توحيد الله وعبادته وطاعته وهداية الخلق إلى الحق سبحانه والدعوة إلى مكارم الأخلاق. أما «أمهاتهم شتى»، فمعناه «اختلاف شرائعهم التى تناسب أقوامهم وزمانهم والأهواء والأدواء التى انتشرت فى عصورهم.. فشعيب عليه السلام، حارب الفساد الاقتصادى والغش فى المكيال والميزان.. ولوط عليه السلام، حارب الشذوذ الجنسى.. وهود عليه السلام، حارب طغيان عاد وجبروتهم وتسلطهم وبغيهم. و«عيسى ومحمد» عليهما السلام، بينهما من المودة والمحبة والتواصل أكثر من أى نبى آخر.. لأنهما متعاقبان.. فالأشقاء الأقرب سناً تكون بينهم من المودة والمحبة أكثر من الشقيقين المتباعدين سناً وعمراً. ولذلك كان تعبير الرسول صلى الله عليه وسلم، «وليس بيننا نبى» وكأنه تسلم راية النبوة والرسالة والهداية من شقيقه «عيسى» الذى أُرسل إلى بنى إسرائيل، لتنتقل الرسالة إلى أمة العرب.. ولتنتقل معها من فلسطين إلى مكةوالمدينة. إنها إخوة الرسالة والسير فى ركب الإيمان المتواصل.. فمحمد صلى الله عليه وسلم، هو أولى الناس ب«عيسى» ليس فى الدنيا فحسب.. ولكن فى الآخرة أيضاًً، فكلمة «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم» تحمل فى طياتها الكثير من معانى الوصال والقرب والحب والنصرة والحرص.. وعلى كل من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يكون له حظ وافر من هذا الحديث، وأن يهتف قلبه ولسانه: «نحن أولى الناس بعيسى بن مريم.. وكل الأنبياء أيضاً». لقد أسهب «محمد وعيسى» عليهما السلام، فى تبشير كل واحد منهما بالآخر.. ومدح كل واحد منهما للآخر.. وقد أعطى القرآن العظيم للمسلمين وللدنيا كلها صورة ناصعة راقية جذّابة ورقراقة ليس عن المسيح فحسب.. ولكن عن أسرته كلها وعن جده «آل عمران»، بل أفرد سورة باسم أمه «سورة مريم» وأفرد ثانى أكبر سورة فى القرآن عن عائلته وهى «آل عمران». وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحدّث أمته عن رحلة المعراج وكيف التقى بالأنبياء، ومنهم «عيسى» عند البيت المعمور، فقال: «بينما أنا أطوف بالبيت رأيت رجلاً يهادى بين اثنين (أى يمشى بينهما)، فقلت: من هذا؟.. قالوا: أخوك ابن مريم.. وكانت رأسه تقطر ماءً، وكأنه خرج من ديماس (أى من حمام)».. فانظر إلى رد «جبريل»: «هذا أخوك ابن مريم». فقلوب الأنبياء لا تعرف الأحقاد ولا الإقصاء ولا الحسد والكراهية.. وهى تختلف عن قلوبنا أو قلوب معظم السياسيين أو قلوب عباد الجاه والمال والمناصب العمياء. فهذا عيسى صلى الله عليه وسلم، يُبشر بشقيقه «أحمد» أو «محمد» الذى سيخلفه فى الرسالة «وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ».. كما جاء فى القرآن أو كما جاء فى الإنجيل فى الإصحاح العشرين من إنجيل «متى» عن قول المسيح «أما قرأتم قط فى الكتب أن الحجر الذى رذله (أى تركه) البناءون صار رأساً للزاوية من قِبل الرب.. كان هذا عجيباً فى أعيننا.. من أجل هذا أقول لكم: إن ملكوت الرب سينزع ويعطى لأمة أخرى تصنع ثمرته». وحجر الزاوية المتمّم للبناء فى حديث المسيح هو «محمد» موضع اللبنة المتمّمة للبيت الذى أقامه الأنبياء السابقون.. وهذا مطابق تماماً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، الذى أعطى لكل نبى حقه وجعل كل واحد منهم حلقة فى سلسلة الهداية والرشاد «مثلى ومثل الأنبياء من قبلى، كمثل رجل بنى بيتاً فحسّنه وجمّله، إلا موضع لبنة فى زاوية من زواياه.. فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له.. ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟!.. قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين». وب«عيسى» ختم الله الأنبياء الذين أرسلهم إلى بنى إسرائيل.. وب«محمد» انتقلت النبوة من بنى إسرائيل إلى أمة العرب، ولكن «محمداً» أرسل إلى الناس كافة ليكتمل به صرح النبوة العظيم. إن كل نبى يُبشر بالآخر ويقدمه للدنيا سعيداً ومسروراً بمن سيكمل الرسالة ويحمل علم الهداية من بعده. إنه لدرس عظيم بين الذين يريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله من جهة.. وبين أنبياء الله بعضهم بعضاً من جهة أخرى.. ولا يتشابه ويتقارب «محمد وعيسى» عليهما السلام، فى الأخوة والنبوة فحسب، ولكنهما يتشابهان أيضاًً فى مفردات الرسالة الأخلاقية التى بعثا بها. و«محمد والمسيح» تعرّضا للاضطهاد من قومهما، وكلاهما هاجر فى سبيل الله.. الأول إلى المدينة.. والثانى هاجر مع أمه إلى مصر. وكلاهما تحمّل الأذى من قومه دون أن يدعو عليهم.. فالمسيح لم يدعُ على أحد أبداً.. و«محمد» كان يُؤذَى من قومه ويُضرَب، فيقول «اللهم اهدِ قومى فإنهم لا يعلمون». وكلاهما كان متواضعاً هاضماً لذاته.. فهذا المسيح يقول عن نفسه: «من قال إنى صالح.. فليس أحد صالح سوى الله».. وهذا شقيقه «محمد» يقول لمن خاف منه «هوّن عليك يا أخى.. فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد -طعام بسيط من طعام الفقراء- فى مكة». وصدق «برنارد شو» حينما قال: «أقرب رسالتين لبعضهما هما رسالة محمد والمسيح».. فسلامٌ عليهما فى المرسلين وفى الجنان وفى كل حين.