منذ صغرى وأنا أعيش حالة حب مع الرقم أربعين؛ أرى فيه توهجاً وقوة من نوع خاص، قال عنه السابقون هو رقم تكمن فيه قوة النار، وغالباً ما يأتى معه الطوفان. فى إحدى الليالى سألت شيخى الطيب: متى يكتمل الإنسان؟ قال لى باسماً: احذرى الأربعين، ففيها تكتمل الأشياء إلى درجة الفيضان، وفيها تستقر الأشياء إلى درجة الاتزان. حدث أن جمعنى حديث مع زميلة بالتليفزيون الذى أعمل به وكانت تصر على أن سن الأربعين سن الخلل النفسى الذى يطلق عليه مصطلح «لوثة الأربعين»، وهو ما تجادلنا حوله بشدة، فهى تؤيد الفكرة السائدة بأنها سن العودة إلى المراهقة. مرت سنوات ولم يبرح وميض السؤال عقلى، ومع كل أربعينى أو أربعينية أقابلها غالباً ما يتحفز ذهنى للمقارنة بين ما تعلمته وما قالته زميلتى قبل أكثر من عشر سنوات. واليوم تحديداً عند مرورى بأحد المحلات الألمانية طالعت كتيباً مصوراً عن منتجاتهم الراقية. اختارت هذه الماركة الشهيرة لواجهتها الإعلانية رجلاً أربعينياً محدد القسمات واثق النظرة، وامرأة أربعينية هادئة الملامح باسمة الوجه. انتهز السؤال القديم الفرصة وعاد لى شاهراً تمرده: ألم يحِن الجواب بعد؟ بلى يا سؤالى المشاكس، آن الجواب. علت وجهى ابتسامة وأنا أتذكر كيف تمر السنوات سريعة، فغالباً ما تركض السنون بعد منتصف العقد الثالث ولا تستطيع اللحاق بها. أنا يا صديقى العزيز اكتشفت أن الرجل والمرأة سواء تقريباً فى هذه المرحلة العمرية، فعند تخطى حاجز الأربعين تدرك فجأة أن القسم الأكبر فى حياتك قد مر، فتهاجمك الأسئلة وتستفرد بك الحسابات، الجميع يكرر الجملة نفسها: «ليس ما تبقى من العمر بقدر ما فات، وإن تساوت السنوات وعشت أربعين سنة أخرى، فلن تتساوى القوة ولا الرغبة ولا القدرة». هنا يبدأ النهم للحياة فى مراودتك عن واقعك، ويبدأ الجوع لكل ما لم تدرك طعمه خلال سنواتك الماضية. عندها تمر على دائرتك الأولى وتسأل نفسك عن نفسك: هل أجدت أم هُزمت؟ هل ستكمل حياتك هكذا أم ستغيرها؟ لا تخجل من السؤال. ارفع صوتك حتى يأتيك اليقين، هذا حقك، وهذه حياتك. فانهض وقرر وقوّم أداءك تجاه نفسك وربك، ولن تحتاج إلى الآخرين. ستذهب بعد ذلك سريعاً إلى الدائرة الثانية وتسأل عن واقع بيتك، كيف تعيش الآن بين عائلتك، وهل أنت مستقر اجتماعياً وعاطفياً. أحزن جداً عندما أتخيّل كيف تعيش الآن إن لم تكن من الفائزين بالاستقرار، فمن كانوا بالأمس فى احتياج إليك من أبنائك استغنوا عنك تدريجياً فلم يعد الوقت الذى يجمعكم كما كان، فقد تقاسمه معك أصدقاؤهم واهتماماتهم وانفردت أنت فى غرفتك تدريجياً. سترى حينها واقعك بشكل آخر، فكل ما كان يلهيك عن واقعك سينكشف فجأة وسيسقط الحجاب عنه. لا تتألم حينها يا عزيزى، فما زلت تستطيع أن تعوض كثيراً. الدائرة الثالثة هى دائرة حياتك العامة وعلاقاتك الاجتماعية الخارجية وزهو الحياة الذى لم تعرف له طعماً، كيف ستعرف وقد كنت مشغولاً بكل هذه الأشياء والمسئوليات التى لم ولن تنتهى؟ هل تذكر متى كانت آخر عطلة لك؟ ماذا فعلت؟ إلى أين ذهبت؟ نحن لسنا ماكينات يا صديقى، فلا تنسَ حقك فى تذوق متعة الدنيا والاستمتاع بكل هذا الجمال الذى خلقه الله لنا. هذه الدوائر الثلاث نخرج منها متفرقين إلى ثلاثة طرق: منا من يستسلم ويعتبر أنه مسيَّر فى الحياة وأن عليه أداء رسالته حتى النهاية والقبول بقدره، فيبقى الحال كما هو إلى ما شاء الله. ومنا من يركز كل تفكيره على الهروب من هذا الواقع، فينحرف عن المسار فيسقط فى براثن انفعالاته وأفعاله المتطرفة فى كل الاتجاهات: مع نفسه وفى عمله وفى علاقاته الاجتماعية، بل وفى أدائه الدينى. أما الطريق الثالث فهو طريق من سيعقل الأمور ويضعها فى نصابها الواقعى ليعظِّم استفادته بسنواته المقبلة، فيراجع حياته ويتخذ قراراته وفق مبدأ: «لا ضرر ولا ضرار»، أو على الأقل تقليل الخسائر قدر الإمكان. هذه هى الطرق الثلاثة: الأول يكمن دائماً فى الظل إذ اختار الاستسلام، والثانى يظهر فى العلن، ويطلق الآخرون على ما يمر به «أزمة الأربعين»، أما الثالث فحَسُن حاله واتزن فيضانه وفاز حتى آخر عمره، فلِمَ لا تشاركه الطريق يا صديقى الطيب عندما تأتيك الأربعون؟