سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
«سائق مبتور القدم» من الملاكى: «مشغلها تاكس.. يا بلد ماشية بالعكس» «ليه القانون يسمح لى بالحصول على رخصة خاصة مش مهنية مع إنى بنجح فى اختبار السواقة زى أى حد؟»
يخطو الصبى مسرعاً، يتقدم ليلحق بالقطار عائداً من عمله بالمندرة بالإسكندرية، يقفز ليصعد القطار الذى بدأ فى التحرك نحو مسكنه بسيدى بشر، فيهوى صاحب 12 عاماً، بين الرصيف وعجلات القطار. ترتفع صرخات المارة لتغطى على صوت طقطقة عظام قدمه اليسرى التى هرسها القطار بعجلاته فى ثوان.. ساعة وأكثر استمر «ل - ن» راقداً على المحطة، حسب روايته ل«الوطن»، والدماء تسيل من قدمه، حتى وصلت عربة الإسعاف، ولكن الطبيب الذى أجرى العملية عمّق من جراحه وأجرى البتر فوق الركبة وليس من تحتها «كان لازم الدكتور يراعى ربنا فيا، أنا ماكنتش ناقص»، فالأطراف من تحت الركبة أسهل وأكثر راحة فى العمل من فوق الركبة «عمى وقتها ما دورش على حقى لا من ناحية السكة الحديد ولا ناحية الطبيب الذى أهمل وبتر من فوق الركبة». تمر السنون، يجلس «ن»، الذى نستبدل اسمه بحرفين -خوفاً من مضايقات المرور كما يقول- على عجلة قيادة سيارة قديمة، حصل عليها بعدما طرق كل الأبواب للبحث عن العمل «قدمت عشان أشتغل فى الحكومة ضمن 5% بس طبعاً ما تقبلتش عشان فيه ناس بتروح تزور شهادة معاقين وتحصل على حقنا»، لم تترك له الدولة بديلاً سوى العمل على سيارته الملاكى التى حصل عليها بسعر مخفض «مشغلها تاكسى يا بلد ماشية بالعكس»، بدقة يختار زبائنه، فشكل العربة الملاكى، يفرض عليه عدم الخروج للعمل مع زبائن الشارع، فربما يصادفه أحدهم من أصحاب النجوم الذهبية من ضباط المرور. حين شاهد «ن»، ابن الثلاثين عاماً، صور أحد المعاقين مبتورى القدم واليد مقبوض عليهم من قبل المرور لقيادتهم سيارة على الطريق بعد حادث اصطدام البحيرة الذى راح فيه عشرات الأطفال، لم يتأثر، فكما يقول، متوقع دائماً من الدولة إلقاء إهمالها على أقل الجهات حصولاً على حقوقها، ولم يستبعد قيادة معاق لعربة نقل ثقيل «أنا مثلاً معاق، وكنت بشتغل فى فرن، ودى شغلانة صعبة جداً وما كانش فيه مشكلة»، لم يخش على نفسه مما سماه «تنكيل رجال المرور»، مثلما حدث مع زميله المعاق المقبوض عليه، فهو حاصل على رخصة ولكنها لعربة ملاكى، لأن القانون يتيح له قيادة سيارة برخصة خاصة، لكنه لا يعطى المعاق رخصة مهنية «ليه القانون يسمح لى آخد رخصة خاصة لكن المهنية لا، مع إنى بنجح فى اختبار السواقة زى أى حد». قيادته عربته الملاكى، ليقتات منها لقمة عيشه، جاءت بعد العمل الشاق فى أحد أفران الخبز، منذ صغره «مهنة أبويا وعيلتى كلها وبشتغلها من قبل الإصابة»، يصر السائق الشاب على الاستمرار بها رغم رفض أهله عقب بتر قدمه «كانت أصعب حاجة عليا إنهم يقولولى إنى مبقتش قد الشغلانة، ولازم أشوف غيرها، خلانى أسيب مخبز قرايبى اللى كنت شغال فيه وأروح أشتغل عند الناس الغرب»، ويقول إنه كلما طلب الالتحاق للعمل بأحد الأفران كان صاحبه يستضعفه ولا يثق فى قدرته على العمل.. ولكنه أصر وداوم على البحث حتى عمل بأحد الأفران بالإسكندرية، وحين قامت الثورة انتقل للعمل بالقاهرة ليكون بجوار ميدان التحرير. تلك «المعاملة الخاصة» هى أكثر ما كان يغضب «ن» منذ الإصابة «ييجى عمى يقول لى ما تخفش، بكره تكبر وتتجوز وتبقى تمام»، وهى نفس المعاملة التى حظى بها فى المدرسة، مما جعله دائماً بعيداً عن أى عقاب، وهى السبب الرئيسى فى فشله، على حد زعمه، فى الدراسة «بعد ما رحت المدرسة ومن أول مرة ورجلى مبتورة، المدرسين كلهم كانوا بيعاملونى معاملة خاصة جداً، الطلاب كلهم يتعاقبوا ما عدا أنا، فبقيت أعمل الغلط متعمد، عشان عارف إنى مش هتعاقب، ففهمت الإعاقة غلط، بسبب مدرس جاهل، بطريقة غلط فهمنى الإعاقة غلط، استغل الإعاقة عشان ما تعلمش»، ويقول إنه كان أقوى من المعلم والتعليم نفسه وناظر المدرسة بالإعاقة «فيه معاقين ما فكروش فى المدرس ولا الناظر ونجح بالإعاقة، لكن أنا فشلت وكملت حتى ثانوية تجارية، والمعاملة الخاصة هى السبب»، ويؤكد أن المدرسين فى المراحل التعليمية المختلفة غير مؤهلين للتعامل مع المعاقين فى المدارس. بعدما تخرج، بحث «ن» عن عمل فى أحد مصانع الملابس، ولكنه لم يطق تلك المهنة، وعاد للعمل مرة أخرى بالفرن «أفضل حلوانى اشتغلت معاه فى إسكندرية اسمه شعبان كان أطرش ما بيسمعش»، وحين قامت الثورة، انتقل «ن» للعمل بالقاهرة بأحد الأفران ليكون بجوار ميدان التحرير، الذى أمل من خلاله فى بداية جديدة لمعاملة مختلفة مع المعاقين، وهو ما لم يتحقق على الإطلاق، حسب حديثه. «ن»، كان أحد الشباب الذين التقوا الرئيس السابق، محمد مرسى، فى قصر الرئاسة لمناقشة مشاكل المعاقين بعد الثورة «الكل بيحاول يهدى الناس من خلال إيهامهم بحل الفئات الأكثر إهمالاً وعلى رأسهم المعاقون ولكن تنفيذ مفيش»، ويجد فى المجلس القومى لشئون الإعاقة مجرد «مُسكّن»، وأن العاملين به لا يهتمون بشئون الإعاقة كما يجب «كنت رافض المشاركة فى الاجتماع مع مرسى، لأنى كنت حاسس إنه كومبارس، وما كانش عندى أمل فى نظام الإخوان». بزهو يقول «ن»، إن العمل فى «الفرن» سهّل له اللقاء بأحد الرياضيين بالصدفة، لفت انتباه الرياضى قدرة «ن» على ممارسة عمل شاق كخباز «قال لى إنت ممكن تلعب رياضة زى رفع أثقال أو رمى الرمح أو جلة»، وبالفعل بدأ «ن» بألعاب القوى، ثم انتقل للكرة الطائرة، واستمر فى اللعب حتى وصل إلى قيادة منتخب الإسكندرية فى اللعبة نفسها، ولكن ظروف العمل وضيق العيش لم يمكنه للاستمرار فى الرياضة. يجلس «ن»، بعد أن أكمل عامه الثلاثين، على أحد المقاهى بسوهاج برفقة أصدقائه من المعاقين، رفقاء الدرب، لا يساعد صديقه الضرير فى عبور الطريق، ولا فى تناول الطعام «فى مجال الإعاقة المساعدة لا تمنع ولكن تُطلب»، الرجل يقول إن متاجرة الدولة منذ عهد مبارك بحقوق المعاقين هى السبب فيما وصل له وضع المعاقين الآن «فى المرور بيحسسنى إنه بيمن عليا لما بيدينى رخصة وأنا معاق لدرجة إن ضابط المرور بيتعنت معايا، وكل موظف فى الدولة يحسسنى إنه بيعطينى عطية من جيبه»، يشدد على أنه لا بد أن تختلف نظرة المجتمع والدولة للمعاق من «إنسان بركة ولازم نعطف عليه»، إلى نظرية طبية، ظروف خاصة يمكن تداركها والاستفادة من إمكانياته. ما فرضته الدولة على شركات القطاع الخاص بضرورة وجود 5% من العاملين من المعاقين لم يحقق المطلوب ولم يدخل المعاقون بشكل صحيح وسط العاملين: «بعض الشركات بتقول للمعاق خليك فى البيت وهبعتلك مرتبك لحد عند لمجرد إنها تهرب من الغرامة لو مشغلتش معاقين وحتى الغرامة 100 جنيه، يعنى إحنا تمنا عند الحكومة رخيص أوى كده»، ويرفض «ن» الفئوية التى تعامل بها الدولة المعاق، ويجد أن حسابات الدولة عن المعاقين خاطئة، ويقول إن جزءاً كبيراً من المعاقين معزولون بسبب أن أسرته تحبسه فى منزله وتعزله عن الناس «خايفين يتقال عليهم عندهم حد معاق». قدم «ن» طلباً رسمياً بالكشف الطبى على المعينين باسم الإعاقة فى جميع قطاعات المحافظة لمعرفة الذين حصدوا تلك الوظائف بما يسميه «تزوير شهادات إعاقة»، كتب فى طلبه: «لو ما لقتوش ناس عاملة شهادة مضروبة حاكمونى»، ويقول إن نفس الطبيب الذى استخرج الشهادة «المضروبة»، هو نفسه الذى قام بالكشف عن قطاعات الدولة التى يعمل بها المعاقون بمحافظة سوهاج «الخصم هو الحكم».