(للتاريخ محاكمة أخرى) قارئى العزيز.. فتشت فى أوراقى كثيراً كما يفعل وكيل النيابة اليائس عندما تُعييه الحيل ويخذله قانون البشر، باحثاً عن عدل يكفى لإقامة محاكمة لا تعترف بقانون الإجراءات ولا يعنيها ثغراته التى أشاعت الظلم أكثر من الظالمين أنفسهم، فالتاريخ قاضٍ لا تسقط قضاياه بالتقادم، يمنح المدعين بالحق المدنى من حسن البيان ما يليق بأن يسطر فى صفحاته وهذا أول طابور طويل.. - لتتفضل يا صغير.. المحكمة تعطيك الحق فى مخاطبة المتهم بنفسك.. ولتبدأ الجلسة... محكمة.. - عفواً سيدى الرئيس.. كنت أبحث عن مثل أعلى فى الحياة فأنا من ضحايا محاكم الأحوال الشخصية حيث ينشر الغسيل -عفواً (الوسخ)- وأياً كانت سنوات البحث عن عدل بطىء -هو عين الظلم المبين- يأتى متكاسلاً متمطعاً، إن أتى أصلاً فيكون (بعد خراب مالطا)، وأياً كانت نتائج الفصال عن قيمة النفقة، كيفية سدادها، عدد مرات الرؤية؛ فإن النتيجة الوحيدة المؤكدة هى انهيار المثل الأعلى فى الوجدان والعقل الصغير. لذلك بحثت لنفسى عن مثل أعلى، قوى، حكيم، لا يخطئ أبداً، يعرف كل الأشياء، يحمينى عندما أخاف، يستطيع أن ينتصر على أمنا الغولة، و(أبورجل مسلوخة).. أتباهى به أمام الجميع، أزهو بانتمائى له، أختفى فى حضنه عندما يضربنى أقرانى فينتصر لى وإن كنت مخطئاً. وفى المدرسة وبينما كانت أبلة سعاد تتحدث نظرت إلى صورتك طويلاً فى كتاب التربية القومية... - عفواً سيدى الرئيس.. لا أعرف لماذا شعرت بالأمان، استمعت إليها بشغف على غير العادة، سألتها كثيراً عنك لدرجة أدهشتها.. وكان أهم سؤال أردت أن أدسه وسط آخرين حتى لا يعرف أحد خطتى الصغيرة: - هو عنده أولاد أد إيه؟ - اتنين. لا بأس.. ثلاثة ليس عدداً كبيراً أستطيع تصور مشاركتهم لى فيك فأنا لست أنانياً بطبعى حتى فى أحلامى. هل تذكر تلك الأغنية التى غنيناها أمام السيد المحافظ؟ لقد صدقتها متجاهلاً نفاقاً ركيكاً يفوح من كلماتها ووهبتك ذلك اللقب: بابا مبارك. ومن يومها وهنالك صورة معلقة فى حجرتى المتواضعة، أمام سريرى الصغير، أتطلع إليها، تثير سخرية أصدقائى، أحاول إيجاد مبرر لوجودها وكأنها ذنب، لا أجد فلا أبالى.. أناجيها أحياناً، أشكو إليها كثيراً، أعاتبها، ثم أعاتبها، حتى أصبحت أصرخ فيها دون أن أدرى. - عفواً سيدى الرئيس.. فكرت أن أحطمها ذات يوم، أن أزيلها من مكانها على الحائط المقابل لسريرى الصغير.. لكن سيبقى الحائط خالياً ومسمار فى وسط الحائط يذكرنى بشىء أفتقده.. أحتاجه. وتمر الأيام.. وتتوالى أحداث تفوق قدرتى على الفهم: ■ جارنا عمو أنس أصبح يملك قصوراً وسيارات كثيرة لمجرد تقربه من دائرتك ولم يرضَ أن يقابل أبى وهو عشرة عمره ليقدم له قضية فساد فى المصلحة الحكومية التى أفنت شبابه.. وعيّن أقاربه فيها بأضعاف راتبه. ■ يموت أخى الصغير أمام أعيننا بالمرض الوحش بعد أن أهينت أمى ورأيتها مذلولة باكية على كل الأبواب وبعنا عفش بيتنا المتواضع ولا مكان له بالمستشفى الجميل الذى يشحتون عليه طول الوقت وتملأ الصحف أخبار سفر السادة الوزراء وزوجاتهم والمسئولين وذويهم واللى (يتشددوا لهم) الأغنياء منهم قبل الفقراء لكل بقاع الأرض للعلاج على نفقة الدولة.. ويرحل أخى بآلامه ودموعه البريئة وفى عينيه سؤال لا يجد إجابة: ليه؟! ■ يتكدس فصلنا ب78 طالباً لا نجد مكاناً للجلوس وماما أثناء شجارها مع أبلة الناظرة بسبب الشباك المكسور زجاجه فى ظهرى والذى أصابنى بنزلة شعبية حادة مشوحة بجريدة مانشيتها (تكلفة الفصل 200 ألف جنيه من ميزانية الدولة طبقاً لهيئة الأبنية التعليمية)، رغم أنى أشاهد فى التليفزيون أطفالاً فى فصول جميلة ومجهزة.. يتعلمون الكمبيوتر.. بينما الأجهزة فى مدرستنا لا يلمسها إلا المدرسون.. وكنت أود أن أعرف أشياء كثيرة.. ليتك رأيت الموتور الصغير الذى صنعته بيدى.. فأنا أحلم أن أكون مخترعاً. ■ أنا كمان شاطر فى الكاراتيه وحصلت على ميداليات كثيرة ولكنهم اختاروا زميلى فايد ليمثل مصر فى بطولة فى بلاد بعيدة لأن والده عضو المجلس المحلى.. والنتيجة أنه خسر وأنى بطلت كاراتيه.. صحيح (هو يعنى إيه المجلس المحلى؟). أقاوم مشاعر تنمو داخلى رغماً عنى.. أتذكر انتصارات صنعتها أنت وحدك.. نعم سيدى هكذا سمعتهم فى الأغانى والبرامج والجرائد.. فتلك وسائلى للمعرفة.. فمدرستى ليس بها مكتبة.. الحقيقة لا أريد أن أكذب عليك.. فمدرستنا بها مكتبة ولكننى لم أدخلها قط.. فأبلة زينات (كتر خيرها) تجعلنا نلعب فى الحوش فى حصة المكتبة حيث جلستهم المفضلة ووشوشاتهم التى لا تنتهى.. على فكرة أنا أحسن واحد يقف جول.. كذبت عليك مرة أخرى.. أنا أقف جول لأن الواد فتحى لا يسمح لى بغير ذلك أصله ابن أبله الناظرة.. لقد حكيت لك عنه مراراً لعلك تذكر! ماما تنادينى.. لقد تأخرت على المدرسة، سأذهب لأن ماما قالت لى إنى لازم أنجح وأعوضها ما لاقته من عذاب وكمان أنا بأحب مصر قوى ونفسى أعمل لها حاجات كتير.. عندما أعود سأخبرك.. ويرحل الصغير.. ولا يعود أبداً.. ويمتلئ البيت بالحزن والبكاء والجرائد بالشجب لحوادث الطرق والمزلقانات البدائية التى تقطف زهور الغد.. وتسقط الصورة من على حائط الأحلام أمام السرير الصغير فى الغرفة المتواضعة.. ويقف التاريخ قليلاً عن الكتابة.. وترفع الجلسة حداداً.. وللمحاكمة بقية... محكمة.