تفاصيل أول صدام لى مع صالح سليم قصة كفاح والدى كانت أساس نجاحى دون أن أدرى اسمحوا لى بالعودة مرة أخرى بضع خطوات إلى الخلف، والسبب هى رغبتى فى تعريفكم بأسرتى بشكل آخر، فالوالد، كما ذكرت، كان من رجال التربية والتعليم وكان مكافحًا من الطراز الأول، ولقد تعلَّمت منه الكثير والذى لم أدركه إلا بعد سنوات طويلة أنه كان يتباهى دائمًا بقصة كفاحه وإصراره على تحمّل المسؤولية، فله من الإخوة ثلاثة، عبد الله وعبد الشفيع وعبد النبى، وشقيقة واحدة هى خيرية، والغريب أن معظمهم كان يعيش بيننا، إلى أن تزوجوا واستقل كل منهم بأسرته وبيته، وأُمِّى كان لها شقيقان ممدوح ورضا، وشقيقة واحدة هى أمينة، ولكن كان حزنها الأكبر أنها فقدت شقيقها خالد فى ريعان شبابه، بسبب مرض فى القلب، فظلَّت حزينة عليه حتى وافتها المنية عام 91، أما الأشقاء، فقد سبق لى ذكرهم من قبل. أعود إلى الوالد الذى ذاق الأمرّين ليصل إلى حلمه ومنتهى أمله، وهو أن يصبح مديرًا للمدرسة الثانوية الزخرفية، فلفَّ مصر كلها كعب داير مع كل ترقية، فانتقل إلى الشرقية فى مدينة مشتول السوق كمدرس أول، ثم انتقل إلى مدينة ديروط فى محافظة أسيوط وكيلًا ثانيًا، ثم بعدها إلى مدينة قويسنا وكيلًا للمدرسة الثانوية الزخرفية أو الصناعية هناك، وكانت كل رحلة لا تقل عن عامين، ولعل أصعبها كان رحلة ديروط، حيث عاش أبى وحيدًا هناك ففضَّل السكن فى المدرسة فى حالة أشبه بحالة عادل إمام فى أحد أفلامه الشهيرة عندما سكن مع علِى الشريف الهارب من الثأر، ولكن أبى، كما قلت، كان صبورًا ومكافحًا للوصول إلى هدفه، وأذكر أن أُمِّى كانت تجهز له الأكل والشاى والسكر وكل مستلزمات الإقامة لمدة أسبوعين كاملين، ثم كان يقضى معنا أسبوعًا يعود بعده مرة أخرى لاستكمال مهمته هناك، وعلى الرغم من الصعوبات الشديدة التى واجهها الوالد، حيث من الصعب جدًّا الاتصال التليفونى به لعدة أسباب، أهمها أننا لا نملك رفاهية أن يكون لدينا فى البيت تليفون، أيضًا الاتصالات الهاتفية فى هذا التوقيت فى بداية السبعينيات أو أواخر الستينيات كانت صعبة جدًّا، فإن من حسن حظنا أن أحد جيراننا كان يعمل فى السنترال، لذلك كان لديه خط تليفون، لا أزال أتذكَّر رقمه حتى الآن، «2657» طنطا، ثم أنعم علينا الله بنعمة كبرى حيث أدخل عمِّى عبد الشفيع هو الآخر التليفون رقم «6098» طنطا، لذلك كنا أحيانًا ننجح فى الاتصال بالوالد فى المدرسة بديروط على فترات متباعدة جدًّا، ورغم الغياب المتكرر للوالد عن المنزل فإن دور الأم كان عظيمًا فكانت تتحمَّل المسؤولية بمفردها، وللأمانة كنا جميعًا عند حُسن الظن، خصوصًا أن أعمارنا جميعًا كانت صغيرة. كان الوالد يجمعنا ليلة سفره على عشاء كباب محترم، نعم كباب، وكنت أنا دائمًا المُكَلَّف بشرائه من عند عم جمعة الكبابجى من شارع الحلو، ولى قصص طريفة جدًّا مع عم جمعة، حيث كان أهلاويًّا متعصبًا للغاية، وكان يدهن دكانه بالكامل باللون الأحمر، ثم إنه كان عاشقًا لأم كلثوم، ولم أكن قد وقعت فى غرامها بعد، ولكن على الأقل كنت أستمتع بالغناء وأنا أنتظر الدور لاستلام ساندوتشات، عفوًا الكفتة، وكانت عبارة عن نصف رغيف لكل واحد منّا، وللعلم كانت رخيصة للغاية، ولكنها طبعًا بالمقارنة بباقى الوجبات كانت تعتبر مرتفعة السعر إلى حد ما، لذلك كنا نكتفى بتناولها فى أثناء إجازات الوالد، أما باقى أيام الأسبوع فكانت الوالدة، عليها رحمة الله، تقوم بالواجب من خبز بالفرن وبطاطا وبطاطس وبصل ولا مانع من كام حتّة لحمة فى الفرن اللى فوق السطوح، ناهيك بخيرات ربنا التى كانت تتولى الوالدة إحضارها من شبرا النملة بلدها، والتى تبعد عن طنطا 5 كيلومترات فقط، وكان العشاء هو عشاء العمل الذى نسمع عنه الآن، فكنا نأخذ الوصايا السبع من الوالد، من احترام الأم والانتظام فى الدراسة وعدم إزعاج الجيران والنوم بدرى والتركيز فى الامتحانات، والغريب أننا كنا نطبق تعليماته بالحرف الواحد، وكأنه كان موجودًا بيننا، ولعلِّى لاحظت السعادة البالغة على وجه والدى عندما انتقل إلى قويسنا، وسألته عن السبب، فقال إنه كلما اقترب من طنطا كلما اقتربت الترقية الكبرى، وأنه واثق من أنه سيصبح ناظرًا للثانوية الزخرفية فى الحركة القادمة، ولعل هذا ما تحقَّق بالفعل. ولقد حكى لى والدى قصة فى غاية الغرابة منذ زمن بعيد، ولكن لم أهتم بها، وهو أيضًا وإن كان قد قصَّها لى فى ساعة صفاء، فقد كان مستقلًّا القطار عائدًا إلى عمل لا أتذكَّر بالضبط فى أى مدرسة، فركب بجواره رجل كبير جدًّا فى السن، وأخذ يتحدَّث معه، ثم فجأة سأله إن كان يريد أن يقرأ له الكف، ولكن والدى رفض لأنه لا يؤمن بهذه الخرافات، إلا أن الرجل أصرّ مقابل تعريفة، يعنى 1/2 صاغ، ووافق أبى بعد إلحاح وأخذ الرجل يعدِّد لوالدى بعض المآثر ثم فجأة توقَّف وقال له: إنت ابنك قبل الأخير اسمه إيه؟ فقال الوالد: أحمد، فإذا بالرجل يقول له: هيبقى نجم كبير قوى ومصر كلها هتتكلم عليه، بل وأكتر من مصر كمان، وبسرعة قال الوالد: نعم هو ذكى جدًّا وأتوقَّع له مستقبلًا دراسيًّا باهرًا، فقاطعه الرجل وقال: لا ليس مستقبلًا دراسيًّا، حاجة أهم من كده بكتير، ثم قال الرجل للوالد: أعطنى كمان تعريفة، وأنا أقول لك، فرفض والدى، ونسينا أنا وهو هذه القصة، إلى أن جاءت تصفيات كأس العالم، وكنت فى غاية التوتر، وجاء أبى من طنطا لزيارتى وشدّ من أزرى، فطلبت منه الدعاء هو وأُمِّى، وأخذت ألح عليه، وهى كانت من المرات النادرة التى يزورنى فيها الوالد فى معسكر المنتخب، وعلى غير العادة، وكنت دائمًا أداعبه بوجبة غداء معتبرة، ثم الحلو والشاى، وأضحك معه بعدها، ولكن وكما قلت يومها وبعد الغداء وجدنى أبكى بشدة، فسألنى فيه إيه؟ فقلت: خايف نخسر ونخرج من كأس العالم، فضمَّنى إلى صدره، ولأول مرة فى حياته يحلف بالله، قائلًا: والله يا أحمد حتوصلوا لكأس العالم، مش كده بس، وهتلعبوا حلو قوى هناك، إنت مش فاكر الراجل بتاع الكف، واندهشت ففكَّرنى بالقصة، والغريب أننى شعرت براحة كبيرة جدًّا، ثم طلب منى أن يرى الكابتن الجوهرى، عليه رحمة الله، فقال له: أنا جاى أقول مبروك مُقدمًا الوصول لكأس العالم، وابقى افتكر يا كابتن.. سلامو عليكو، والغريب أيضًا أنه بعد وداعى لوالدى جلس معى الكابتن الجوهرى، وأخذ يسألنى عن والدى وصفاته وطباعه، وفجأة قالى لى: أنا تفاءلت قوى بكلام أبوك والوصول لكأس العالم، طبعًا قصة كبيرة لها معنا أكثر من حلقة. أعود إلى الوالد من جديد الذى فرح بشدة وبطريقة لم أرَها فى حياتى عندما تم تعيينه ناظرًا للمدرسة الثانوية الزخرفية، فقد طلب من أُمِّى أن تبلّ الشربات وتوزّع على الحتة كلها، فالأستاذ عبد العزيز أصبح ناظرًا وفى مدينة طنطا والمدرسة تبعد عن المنزل نحو 2 كيلومتر، كان يأخذها والدى صباحًا سيرًا على الأقدام وهو فى غاية السعادة، وأذكر موقفًا فى غاية الطرافة، فلقد جمعنا الولد ليلة ذهابه لأول مرة إلى المدرسة وأوقفنا جميعًا ثم وقف فوق الكرسى وأخذ يلقى علينا كلمة السيد ناظر المدرسة، مرة واثنتين وثلاثًا، والأطرف أنه فى اليوم التالى صباحًا وقبل ذهابه إلى المدرسة كرر ما فعله أمس، ولكن لمرة واحدة، حيث كنا جميعًا نتأهّب للذهاب إلى المدرسة، واستمرت الحياة بين أب يجاهد للوصول إلى أحلامه التعليمية، وخلال رحلته هذه تعلَّم الرياضيات فأصبح يعطينا دروسًا خصوصية ليوفِّر مصاريفها، وأذكر موقفًا لم ينسَه أبى ولا أنا أبدًا، فقد كان يزاملنى فى الدراسة فى البيت 4 أشخاص، جارتنا بنت الأستاذ أيوب، وياسر الجندى، واثنان آخران، وكان بعضهم يدفع فى الشهر مبلغًا رمزيًّا، ولكنه كان يساعد فى مصاريف البيت، المهم أن الواجب كان به معادلة هندسية، وكنت شاطر جدًّا فى الجبر والهندسة والعربى والتاريخ، وفى المقابل كنت أكره جدًّا الكيمياء والفيزياء وحساب المثلثات والتفاضل والتكامل. المهم أننى حلّيت المعادلة وجاء زملائى الأربعة بحل آخر متطابق تمامًا، وبدأ والدى بكراساتهم ووجدها متطابقة، فما كان منه بعد أن وجد إجابتى أن اقتنع أن إجاباتهم صحيحة وأنا خطأ، فضربنى بالقلم على وجهى بقسوة الأب الذى يريد لابنه أن يكون الأحسن بين كل زملائه، إلا أننى غضبت بشدة وتركت الدرس وانخرطت فى بكاء شديد، وللعلم أنا لم أكن أعصى والدى أبدًا، اللهم إلا عند لعب الكرة، أما دون ذلك فقد كنت مطيعًا للغاية، وانتهى الدرس دون حضورى الحصة، وشكوت لأُمِّى بالدموع من ظلم أبويا، فعاتبته، إلا أنه أصر على موقفه وأصررت على أن إجابتى صحيحة، ولحسن الحظ كانت لدينا حصة فى اليوم التالى، وطلبت من والدى أن يعيد تصحيح المعادلة وسط دهشة واستغراب، وأخيرًا استجاب لى فكانت المفاجأة أننى صح، وأنهم جميعًا خطأ، وكان لدى أبى من الشجاعة أن يعتذر لى أمامهم، والطريف أننى لم أقبل اعتذاره وطلبت منه أن يضرب كل واحد منهم قلمين لسببين، الأول لأن إجاباتهم كانت خطأ، والثانى لأن الحقيقة اتضحت أنهم جميعًا غشّوا من بعض، لذلك انتصرت فى هذه المعركة التى أسهبت فى سردها، لأنها تشابهت تمامًا مع ما حدث لى بعد أكثر من عشرين سنة عندما اتخذ صالح سليم رئيس النادى الأهلى، قرارًا بوقف وخصم مبلغ مالى كبير جدًّا منِّى، لأن أربعة من المسؤولين، وهم صلاح حسنى مدير الكرة، وعدلى القيعى الأهلاوى الكبير، ومحمود محرم مدير النادى الأهلى، وحسام بدراوى عضو مجلس الإدارة، قالوا إننى تطاولت على صالح سليم، وكانت الحكاية أن الأهلى كان يتعاقد فى هذا الوقت مع حارس إفريقى اسمه تابان سوتو، وأعطوه أربعة أضعاف ما كنت أتقاضاه، وكان مستواه متواضعًا جدًّا، فغضبت بشدة، ولكنى لم أخطئ فى حق صالح سليم على الإطلاق. الرواية التى وصلت كانت واحدة من الأربعة، فطلبت من حسن حمدى الذى كان وقتها نائبًا لصالح سليم، أن ألتقى الكابتن، ووافق الرجل وذهبت إلى مكتبه، وأصررت على أن هذه الرواية مختلفة ولا أساس لها من الصحة، فإذا به ينفعل بعنف ويقول لى: يعنى عايزنى أكدّب الأربعة وأصدّقك، فقلت له بقوة: نعم، ورأى الرجل إصرارى الشديد فكلَّف حسن حمدى بالتحقيق فى الأمر، ويومها حدث ما لا يمكن أن يتوقعه أحد، فقد اصطحبنى حسن حمدى فى سيارته إلى النادى، ولحسن الحظ قابلنا على باب النادى حسام بدراوى، فسأله حسن حمدى عن الواقعة، فقال له: دى قصة صلاح حسنى، وتوجهنا إلى غرفة مدير النادى فوجدنا عدلى القيعى، إذ كان ينتظر محمود محرم مدير النادى، عليه رحمة الله، فسأله حسن حمدى فكانت نفس إجابة حسام بدراوى، وبعدها دخل علينا محمود محرم، فكرر نفس إجابة عدلى القيعى، فاندهش حسن حمدى، لأنهم جيمعًا قالوا نفس الكلام بعيدًا عن بعضهم البعض، ثم اصطحبنى حسن حمدى إلى غرفة صلاح حسنى، وسأله عن القصة، فقال له إنه سمعها من أحد أصدقائه ويدعى محسن، فما كان من حسن حمدى إلا أن اتصل على الفور بصالح سليم وقصَّ عليه الحكاية، فكانت المفاجأة من صالح سليم، الذى كان قد أعفانى من رئاسة الفريق بسبب هذه القصة وخصم لى مبلغًا كبيرًا بالإضافة إلى الوقف، فقد قرر صالح سليم إعادتى بكامل صلاحياتى وعزل صلاح حسنى من منصب مدير الفريق.