صباح الخير، صباح النور.. نهارك سعيد، سعيد مبارك.. اتفضل، شكراً.. عامل إيه؟ الحمد لله، كانت هذه الكلمات تملأ دنيا صباى قبل نصف قرن من الزمان، وأنا أسرع الخطى إلى المدرسة فى الصباح الباكر، والمحلات والورش تشرع فى فتح أبوابها، والصبية فيها يكنسون الشارع أمامها ويندِّون ترابها ببعض من ماء، ويتبادل أصحابها التحيات، اصطبحنا وصبح الملك لله، يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، لم يختلف الأمر كثيراً حين كنت أجبر على «الصحيان بدرى»، فى الإجازة المدرسية، متجهاً إلى «وكالة البلح» حيث دكان أبى ل«المانيفاتورة»، تجارة الأقمشة، أمارس نفس الطقوس، كنا بالكاد نقف على أطراف للطبقة الوسطى، كانت جدران محلاتها تحتشد بحكايات كفاح ونجاح بلا حدود، وتشع فى النفس دفقات من الحب والحميمية، لم تشهد يوماً احتكاكاً طائفياً رغم أنها أكثر الأسواق تنوعاً أدياناً وطوائف. كان يوم الأحد فرصتى للتحرر من نظام أبى الصارم، فباب البيت لم يكن يغلق من كثرة الزائرين من الأقارب والمعارف تستغرقهم الحكايات وطرح المشاكل والتماس الحلول عند أبى، باعتباره «كبير العيلة»، وكانت حلوله حاضرة، واحتواؤه لهم يفوق الوصف، لم تكن التقنيات الحديثة قد اخترقت حياتنا بعد، فكانت الصدارة للكتاب، والقراءة، التى كانت محل حرص ودعم أبى، رغم أنه لم ينل قسطاً وافراً من التعليم النظامى، لكنه كان محسوباً على المستنيرين، تجده فى الصباح الباكر جالساً فى مكانه الأثير بالبلكونة يقرأ بإمعان جريدة «الأهرام»، والكتاب المقدس. كنا نسكن بحى القللى الملاصق لمحطة مصر والمطل غرباً على حى بولاق العتيق، ما زالت الذاكرة تحتفظ بمشهد أمى وهى تلح على أبى أن يذهب للتو لاستحضار أسرة «عم عبيد» الذى انهار منزلهم ولم يعد لهم مأوى، وتخصص لهم غرفة فى منزلها، وحين تطهو أكلاً تبادر بملء «صحن» لتلك الأسرة فتشكرها وتعتذر عن قبوله: «الحمد لله اتعشينا، كتر خيرك»، كنت أمد بصرى فأجد هذه الأسرة وقد التأمت حول «الطبلية» وأمامها طبق من العدس أو البيصارة، وقبل أن يبادر أحد بالأكل يغمضون أعينهم، ويضمون أيديهم إلى صدورهم وتقوم الأم أو الأب بالصلاة شكراً لله الذى أنعم عليهم بالصحة والعافية ورزقهم ما يأكلون. ماذا حدث لنا؟ سؤال يخترق رأسى بعد أن احتله الشعر الأبيض وجرى فى نهر الحياة مياهاً صاخبة وغاضبة ومتبرمة، كيف صارت الكراهية والرفض والخصام والتربص عناوين يومنا؟ رغم أننا خطونا خطوات واسعة فى التعلم والمعرفة ووسائل المعيشة، وأعلنا عن رفع سقف التدين، والكلام عن القيم، وقفزت جمعيات البر والإحسان لتحجز مكاناً متقدماً فى دوائر الإعلان بالفضائيات والإعلام ومنظمات المجتمع المدنى، وتطاردنا «ميكروفونات» الدعاة والكهنة فى حديث متصل عن جهنم التى تنتظرنا بنارها المستعرة ودودها الذى لا يموت لو حدنا عن رؤاهم وتصوراتهم، وصارت المعادلة المقلوبة «لنا الآخرة ولهم الدنيا». ماذا حدث؟ وكيف استغرقنا التنظير وابتلعتنا الينبغيات الفاقدة للحياة؟ وكيف صار الدين المعاش الباب الملكى للموت والقتل والكراهية والإرهاب؟ كيف تملكنا الانكفاء على الذات؟ ثم إلى متى؟! دعونا نفكر فى كيفية الخروج من نفق الكراهية المظلم والمدمر، بعيداً عن نداهة السياسة المقيتة التى استغرقتنا وأفسدت علينا يومنا وغدنا، وعلى سياق التجمعات التى صارت واحدة من علامات حياتنا هل يمكن أن نؤسس لجبهة فكرية تقاوم الكراهية، تعيد تشكيل الذهنية العامة، وتشيع قيم الحياة بدلاً من ثقافة الموت؟ فالإصلاح يبدأ فكراً، فى هذا السياق تذكرت كتاباً اختطف جيلى وأجيالاً لاحقة «دع القلق وابدأ الحياة» سأطرحه مجدداً عبر سطورى فقد نجد فيه ما يفتح لنا الطريق لغد أفضل.