وكل هذا الزحام.. ولا أحد!! ربما هى صرخة حزينة يطلقها الملايين من سكان هذه الأرض الذين تأسرهم الحياة فى ركاب من الزحام متلاحق الأحداث، الملىء والمفعم بسخونة وسرعة الإيقاع، المكدس والمحاط بأنفاس البشر من كل ناحية واتجاه.. ثم، مع ذلك، يجدون أنفسهم وحيدين، فارغين، «مخوّخين»، يبحثون عمّن يملأ هذا الفراغ، وهذا الخواء الذى يسبح داخل جسدهم وعقلهم فلا يجدون أحداً بالرغم من أنهم وسط كل هذا الزحام!! توصيف ملخص وموجز لمشاعر إنسان وحيد، يشعر بآلام النفس الوحيدة وهى تصارع «الوحدة» وسط زحام لا يشبع ولا يشفى هذا الخواء الروحى الحزين. الوحدة التى تتخذ أشكالاً عديدة والتى لا تتوقف عند توصيفها المادى المتعارف عليه فقط، الذى يعانى منه مئات الملايين فى العالم، أصبحت مرضاً قاتلاً لا يقل فى خطورته فتكاً بالإنسان عن أمراض عضوية أخرى.. فقد أثبتت الأبحاث أن العزلة الاجتماعية هى من أهم الأسباب الفعّالة للموت المبكر الذى ينتج عن تدخين أكثر من 15 سيجارة يومياً وهى أيضاً أكثر قتلاً للإنسان من أمراض السمنة والإدمان والضغط العالى والخرف. يا سادة.. ماذا نطلق على هذا العصر؟ هذا العصر الذى فشل فى التعامل مع علوم الإنسان والتغيرات الاجتماعية التى تحيط به وتعامل فقط مع ثورته التكنولوجية والرقمية التى تقول الكثير عن المادة وقليلاً عن المجتمع.. أحواله وأوجاعه.. نعم نحن وحيدون.. نحن نعيش فى «عصر الوحدة».. عصر يتحدى الطبيعة الإنسانية التى خلقنا بها وخلقنا من أجلها.. عصر يفتك ب«النوع البشرى» الذى يعيش ويتكاثر ويحب ويعمل ويعتمد على الآخر ووجوده منذ أن بدأت الخليقة. لقد أصبح كل شىء حولنا يشجع على الوحدة.. نجلس فى غرف منفردين.. منعزلين نشاهد التليفزيون وحدنا.. نأكل وحدنا.. نستقل السيارات ولا نلتقى فى وسائل مواصلات محترمة!!.. لا نذهب للسينما إنما نشاهد الأفلام عبر «اليوتيوب» و«الإنترنت».. لا نتعرف على الآخر فى درب الحياة.. بل نبحث عنه عبر «الفيس بوك».. نستخدم عبارات بعيدة عن «الأنسنة» فنقول كلمة «أفراد» بدلاً من كلمة «ناس».. نمدح ونثنى على الآخر وكأنه سلعة لها ثمنها وسعرها فنقول عصامى.. ذاتى النجاح.. «ذاتى المنبع»!!.. الخ.. الكل منعزل.. المجتمع كله يصفق ويحتفل بالعزلة وهو مغيب عما يصيب به نفسه.. يتجاهل حاله وحال الآخرين حوله.. يستخدم المعايير المزدوجة.. يتخبط فكرياً.. ويقبل النفاق الدينى والعقائدى!! يتباهى بالتقاليد والأعراف ولكنه يغمض عينه ويدير رأسه بعيداً عن نسبة ارتفاع وعزلة الطلاق، ووحدة ووجع العنوسة واحتياج الشباب للجنس وممارسته.. المنافسة والفردية أصبحتا شعار البقاء فأهلاً بمزيد من الوحدة!! الثورة الخلاقة ما هى إلا واقع محلى وممارسة اجتماعية لا تزرعها فقط القوى العظمى بل نمارسها نحن بأنفسنا فى ثانية ودقيقة من حياتنا.. إنها حرب الإنسان ضد الإنسان فأهلاً بمزيد من العزلة!! إذن.. ماذا بعد؟.. ماذا كسبنا؟.. ماذا جنينا من هذه العزلة وهذا الانفصال؟ هل أصبحنا أكثر سعادة؟ هل أثمرت هذه المنافسات.. هذه الحرب الدائرة بيننا وبين بعضنا عن حياة أجمل نسعى إليها؟ دعونى أشارككم فى ذلك تجربتى الشخصية التى ربما دفعتنى لكتابة هذا المقال الشاجن الذى أشتاق فيه لنفسى التى فقدتها لأعوام كثيرة وأنا أعمل فى المجال الصحفى ثم رئيسة لتحرير «مجلة البيت».. فبعد كل هذا الزحام.. وكل هذا النجاح، أجد نفسى وحيدة!! لأننى ببساطة فقدت طوال هذه الفترة -وسط زحام البشر والعمل- الطعم الحقيقى لجوهر الحياة والسعادة المخبأة بين ثناياه.. وجدت أن المنافسة والنجاح وإن كانا يجلبان بريقاً ويحققان ربما نمواً فإنهما لا يعوضان الدفء الإنسانى الذى يغذى الدماء ويحقنها بالطاقة للاستمرار والبقاء.. يا سادة.. يا أعزاء.. يا كرام.. نحن نعيش فى عالم شرير، موحش، غير عقلانى، عالم يرجو ويتسول بحثاً عن العطف والمروءة؛ بحثاً عن السعادة!! فاقترب.. لا تبتعد، وتتركهم وحيدين.. اقترب.. وأفعم الحياة بدفء المودة والرحمة.. وأسدل الستار على برودة شبح الوحدة.