البرلمان المصرى هو أعلى مقاصد السياسة وأسمى غاياتها، وهو قِبلة السياسيين الأخيرة من كل حزب وصوب، وهو «طريق الحرير السياسى» إلى الوجاهة والثراء والنفوذ وسدة الحكم، وهو المعبر الملكى إلى الوزارة والسفارة والإمارة، وهو جنة يفوز برضوانها من يملك مفاتيحها. منذ أن وجد البرلمان فى مصر فى عهد الخديو إسماعيل، الحاكم المنبهر بأوروبا ونهضتها وعمارتها وفنونها ونظمها السياسية والدستورية، والمصريون تدور حياتهم -مداً وجزراً- حول البرلمان. من وقتها لم يختلف دوره فى صنع الحياة السياسية للمصريين، ولم تختلف أشكال الصراع عليه بينهم، يستوى فى ذلك أن يكون البرلمان مجلساً للأعيان والباشوات، أو منبراً لتحالف قوى الشعب العامل. وكانت مواسم الانتخابات فى العهد الليبرالى وعهد الحزب الواحد، مناسبات لإبرام الصفقات وتمرير الاتفاقات وعقد التحالفات. ومنذ أن عرفت مصر البرلمانات فى القرن التاسع عشر لا تستطيع أن تعيش بغيرها، حتى إذا انفض سامر برلمان، لسبب أو لآخر، فإن فضه لا يطول، وسرعان ما تنتخب مصر برلماناً جديداً وتنتخب نواباً جدداً، أو تعيد تجديد الثقة فى نواب مخضرمين، معظمهم ما زال قابضاً على مفاتيح الدخول من باب الرضوان البرلمانى، وأقلهم جاء استثناءً -من باب الاختيار الحر الذى لا يدلف منه إلا القادة الطبيعيون الذين يفرضون أنفسهم ببرامجهم وأحزابهم ونزاهتهم على الخارطة السياسية، ليملأوا فراغاتها التى لم تتسلل إليها - بحكم الوعى والتكوين الطبقى والاجتماعى الناضج - تأثيرات الجنرالات الثلاثة المتحكمين فى الانتخابات البرلمانية؛ المال السياسى والاستنفار الدينى، والعصبية العائلية. وقصيرة هى أعمار البرلمانات التى أفلتت من سطوة الجنرالات الثلاثة، يوم كان الناس ينتخبون برامج وأحزاباً وزعامات وطنية. يومها كان بإمكان زعيم وطنى قبطى وفدى هو مكرم عبيد أن يكتسح نقيب الأشراف فى دائرة قنا، معقل العصبيات القبلية والدينية ومركز نفوذها -وما زال- التاريخى والتقليدى. وفى مصر تكاد تتطابق تطابقاً تاماً أو شبه تام الخرائط الطبقية والاجتماعية مع الخرائط السياسية. ففى العاصمة والمدن الحضرية الكبرى والمناطق المصنعة والمنفتحة على تيارات الثقافة والحداثة، يكاد يختفى هذا الثالوث غير المقدس، باستثناء البؤر العشوائية التى تنبت بين أطرافه وعلى هوامشه. أما فى الأرياف ومحافظات الصعيد والأطراف التى يقطنها الفقر والعزلة الثقافية والعصبيات القبلية والعائلية القديمة فإن الجنرالات الثلاثة، المال والدين والعائلة لا يجدون صعوبة فى اجتياح تلك المناطق والاستيلاء على دوائرها الانتخابية وكسر إرادتها السياسية وتزييف وعى سكانها، وتحقيق فوز سهل ومريح فى «غزوة الصناديق». فهل ثمة غرابة -بعد ذلك- أن تطل علينا من مقاعد البرلمان الأخير المنحل وجوه من قندهار ورجال أعمال وشيوخ عائلات، بينما خلت القاعة -إلا فيما ندر- من رجال الأحزاب المدنية وشباب الثورة والمثقفين الذين دشنوا عصر التحول الديمقراطى؟! والبرلمان الأخير الذى انتصرت لحله المحكمة الدستورية العليا فى 2012 هو منتج مشوه وغير شرعى لزواج شاذ بين أطراف ثلاثة؛ المال والدين والعائلة. وفى كل تجارب التاريخ البعيد والقريب كان الاستبداد الدينى وقرينه الاستبداد السياسى هما الابنين غير الشرعيين لهذا الزواج المحرم. وإذا كان لا بد من قطيعة مع الاستبداد بوجهيه الدينى والسياسى، فلا مفر من خطوة حاسمة نحو إعلان طلاق بائن لا رجعة فيه، تفصم العلاقة بين الجنرالات الثلاثة، وتحرر الحياة البرلمانية الجديدة -وهى توشك أن تبزغ- من سطوتهم. وفى الطريق إلى البرلمان المقبل لا تخلو الاستعدادات الجارية على قدم وساق، والمناوشات والمنازعات وأساليب الكر والفر، من تلويح بأموال تتواتر الأقاويل عن مصادرها المحلية والدولية ومنبتها الحرام، كما لا تخلو من «تربيطات» وصفقات عائلية بين قبائل الأشراف والعرب والهوارة فى عمق الصعيد، ومن محاولات خطب ود تيارات دينية تطمع فى الفوز بالجنة البرلمانية. أى من الجنرالات الثلاثة ستكون له الغلبة فى معركة الانتخابات التشريعية المقبلة؟ المال بتفوقه الكاسح وقدرته على شراء الذمم ورشوة الناخبين، وأكثره الآن موزع بين رجال أعمال الحزب الوطنى المنحل، أو شيوخ الأحزاب الدينية الذين ما زالوا يفتحون «سراويلهم الواسعة» لقنوات ما زالت مفتوحة يتدفق منها «المال المؤمن» من الجمعيات الخيرية فى الداخل والخارج؟! أم الدين بسطوته على عقول مغيبة منخورة بالجهل والفقر والأمية؟! أم العصبية العائلية بنفوذها على القبائل والعائلات فى الصعيد وسيناء ومطروح؟! أم تحالف ثلاثى مشترك يجمع الجنرالات الثلاثة دونه التحالفات المتعسرة الولادة التى طال مخاضها سواء أسسها الوفد أو الجبهة أو التيار. إن الطبقة السياسية الغارقة فى «ملهاة» بناء التحالفات وهدمها وإعادة بنائها، تبدو وكأنها غافلة عما يدبر بليل لسلب إرادة الناخبين وتزييف وعيهم، عبر تقديم وعود خلابة بجنة فى الأرض، فإن لم تأتِ فجنة فى السماء! وعود يغذيها المال السياسى المحلى أو العابر للأوطان، وتباركها دعوات الصالحين من الأحزاب الدينية التى يسيل لعابها على رائحة البرلمان المقبل، وتدعمها «بنادق» كبار العائلات المنصوبة استعداداً للموت حول صناديق الانتخابات! وبدلاً من أن تُحدث تلك الطبقة قطيعة مع منظومة الاستبداد السابقة تركت الباب موارباً لعودة آل البوربون بالحضور اللافت لرموز نظام مبارك فى المشهد الانتخابى الحالى. وبدلاً من أن يغسل هؤلاء أيديهم وسمعتهم من تهم طالتهم بالفساد المالى والاستبداد السياسى، راحوا يشكلون من الفلول الباقية من الحزب الوطنى أحزاباً وجبهات بأسماء جديدة وكأنهم يمارسون نوعاً من «غسيل الأحزاب» يُشابه -إلى حد كبير- ما اعتادوا عليه من عمليات «غسيل الأموال»، لا فرق فى الحالين! فالوجوه واحدة، فهى نفسها الوجوه التى «زوّرت» الانتخابات، وسطت على أراضى الدولة، واغتالت أحلام الشباب واغتصبت حقوقهم فى العمل والمشاركة والحكم، وهى التى همشت الوطن، وقزّمت دوره، وهى التى أفقرت الملايين فباعوا أنفسهم وأصواتهم للإخوان!