بمجرد الإعلان عن أسماء الفائزين بجائزة نوبل فى الطب، التى حصل عليها مناصفة كل من «جون أوكيف»، الأمريكى البريطانى، (74 عاماً)، والزوجين «ماى بريت موزر» (52 عاماً)، وزوجها «إدفارد موزر» (53 عاماً) عن اكتشاف خلايا عصبية بالمخ تقوم بدور الجهاز الملاحى GPS الذى يحدد موقع الإنسان من الفراغ الذى يحيط به، كما ترسم خريطة بالمخ لأهم الإحداثيات التى تمكنه من التحرك من مكان لآخر، تذكرت على الفور المشهد من الفيلم الرائع لأحمد حلمى «عسل أسود»، عندما استأجر سيارة وطلب أن يكون بها جهاز «جى بى إس»، وطلب من الجهاز أن يذهب إلى الهرم، فإذا به يذهب إلى البرج، وعندما سأل أحد المارة لعله يساعده، فإذا به يسأله مستنكراً: ماله يعنى الكاسيت فيه إيه؟ فيقصر الشر ويفتح الكاسيت ويقول له: ولا حاجة.. اشتغل والحمد لله. هذا المشهد الكوميدى يمكن أن يلخص لنا أهمية الاكتشاف الذى توصل إليه هؤلاء العلماء، عندما يتوه الإنسان ولا يستطيع تحديد موقعه، ولا الجهة التى يقصدها، وفى الوقت نفسه يظهر لنا السطحية التى يتمتع بها مدعو العلم وهم لا يعرفون شيئاً، مثل الأشخاص الذين لم يلفت نظرهم من صورة «ماى بريت» بعد الإعلان عن فوزها سوى أنها كافرة وتحتفل بنوبل بكأس من الشمبانيا. ونعود مرة أخرى إلى الاكتشاف الذى نال الجائزة، ففى عام 1971 اكتشف «جون أوكيف»، الأمريكى البريطانى، خلايا فى «قرن آمون»، وهو أحد المراكز المهمة المسئولة عن الذاكرة، مسئولة عن تحديد مكان الشخص فى الفراغ المحيط به وتحديد موقعه، وسماها «خلايا المكان»، وأن هذه الخلايا موجودة فى الإنسان والحيوانات الأدنى مثل الفئران، وهى تحدد الإحساس بالمكان، والقدرة على التنقل، وتصور موقف الجسم من البيئة المحيطة به أثناء التنقل، وأن هذه الخلايا مترابطة من خلال الشعور بالمسافة والاتجاه الذى نتحرك على أساسه للتكامل بين الحركة -ليس فقط للموقع المكانى الحالى- ولكن أيضاً إلى أين هو ذاهب من خلال معرفته وتحليله للمواقف السابقة. ولعلنا لاحظنا من خلال رؤية قناة «ناشيونال جيوجرافيك» أو برنامج «عالم الحيوان» كيف تسير أسماك القرش آلاف الأميال خلال موسم التزاوج والهجرة، ثم تعود إلى المكان نفسه بعد أن تنجز مهمتها، وكذلك الطيور المهاجرة وغيرها، ولكننا لم نكن نعلم أنها تمتلك مثل هذه الخلايا التى تكون جهازاً ملاحياً وبوصلة تمكنها من ذلك. وظلت الأبحاث تتوالى إلى أن جاء الزوجان «ماى بريت موزر» و«إدفارد موزر» فى عام 2005 واكتشفا وجود خلايا أخرى سمياها «خلايا الشبكة» فى القشرة المخية الأنفية الداخلية، وهى منطقة من الدماغ بجانب خلايا قرن آمون، و«خلايا الشبكة» مع «خلايا المكان» التى سبق اكتشافها قبل ذلك بأربعة وأربعين عاماً، هى التى توفر للدماغ نظام تنسيق داخلياً ضرورياً للملاحة من خلال رسم خريطة لإحداثيات المكان، وتقدير المسافات والاتجاهات، وهى بالغة الأهمية لحساب الخرائط المكانية والمهام الملاحية التى تصنع الذاكرة المكانية. ولعل من أهم الأعراض التى تصيب مرضى «الزهايمر» هو فقدهم لهذه البوصلة المكانية من خلال تأثر «الذاكرة اللحظية أو العابرة» Episodic memory فى قرن آمون والخاصة بتذكر الأحداث الأخيرة والحديثة، فتجد المريض يحدثك عن ذكرياته منذ أربعين عاماً ولكنه لا يستطيع أن يتذكر ما حدث له منذ ساعة، ولعل اكتشاف هذا النظام الملاحى بالمخ وعلاقته بالذاكرة اللحظية أو العابرة سوف يمكننا فى غضون عدة سنوات من أن نكتشف علاجاً لمثل هذه الأمراض التى تؤثر على الذاكرة وليس لها علاج حتى الآن مثل الزهايمر وعته الشيخوخة وغيرهما. ومن الجدير بالذكر أن الزوجين «ماى بريت موزر» هما ثامن زوجين يتشاركان فى الحصول على جائزة نوبل فى فروع الجائزة المختلفة، والذين كان أشهرهم «بيير ومارى كورى»، أما أصغر من حصل عليها فهو «فردريك بانتنج» عام 1923 عن اكتشافه للأنسولين كعلاج للسكر، وكان عمره 32 عاماً، أما أكبر من حصل عليها فكان «بيتون روس» عام 1966 عن اكتشافه فيروسات لها علاقة بالإصابة بالسرطان، وكان عمره 87 عاماً. وخلال العشر سنوات من 2004 وحتى 2014 فازت 4 سيدات بجائزة نوبل فى الطب، مقابل سيدة واحدة فقط خلال العشر سنوات التى سبقتها.