كان صديقى وأستاذى كامل زهيرى، رحمه الله رحمة واسعة، يهوى التندر على أصدقائه المقربين، ومما كان يتندر به على العبدلله قوله لى: أنت وأمثالك «أريفتم» العاصمة، يعنى صبغناها بالصبغة الريفية، لأن الواحد منكم متعود على أن يختصر المسافات «بالتخريم»، وهذا يصلح فى السكك الريفية، إذ يجوز لك أن تأخذها تخريمة عبر الحقول، ولكن الكارثة أنكم تفعلونها فى ميدان التحرير والشوارع الرئيسية، فلا تلتزمون بإشارات المرور ولا ترون الخطوط البيضاء والسوداء الخاصة بالمشاة، وتعطلون الحركة، فإذا لفت نظركم أحد بكلمة أو بنظرة استنكار انطلقتم فى وصلات الردح الريفى»! وما كان يتندر به الأستاذ كامل أصبح مرضاً حقيقياً يمسك بتلابيب الوطن، حيث لم يقتصر الأمر على ترييف العاصمة والمدن الكبرى، بل تعداه إلى انهيار منظومات السلوك الاجتماعى الفردى والجمعى فى كل اتجاه، حتى فى الريف المصرى نفسه، فلم تعد القرية هى التى عشنا فيها طفولتنا وصبانا وعاش فيها الآباء والأجداد حياتهم من البدء حتى المنتهى! ترييف القاهرة لا يقتصر على ذوى الأصول الفلاحية القروية أمثالى، بل جاوزهم إلى البهوات أبناء البيوتات المدنية أباً عن جد أنفسهم، إذا نظرنا للأمر باعتباره أنماطاً سلوكية معيبة لا تقتصر على الجهل بقواعد السير فى الشوارع والميادين، ولا على تربية طيور داجنة فى الشرفات، ونشر الغسيل وتنفيض السجاجيد من البلكونات، وإنما تشمل صيانة البنايات والحفاظ على طرزها المعمارية، والالتزام بألوان محددة للواجهات، والعناية بالمصاعد وبالسلالم، وامتلاء الواجهات بلافتات الأنشطة كالعيادات الطبية ومكاتب المحامين وغيرها، ناهيك عن بروز أجهزة التكييف بالعشرات وتركها تنثر المياه أثناء تشغيلها وهلم جرا!.. ثم إن دائرة أكثر اتساعاً من ذلك تفرض نفسها على المراقب الذى يرصد أوضاع المجتمع، ومنها ما يسمى بأخلاقيات الزحام ويتساوى فيها ريفى الأصل مع «المدينى» المحتد، وعدم احترام المال العام، وكسر القانون طالما الشرطى غير موجود، وربما وهو موجود إذا كان يمكن شراء ذمته أو ترويعه بالعبارة السمجة الوقحة «إنت مش عارف بتكلم مين»؟! ولقد أتت على العاصمة أوقات كان «الغربال» فيها جديداً ومن ثم مشدوداً، ونزلت حملات الانضباط المرورى، وحررت المخالفات لمستخدمى أدوات التنبيه بغير ضرورة، وللمشاة الذين يعبرون من غير الأماكن المخصصة لهم أو أثناء الإشارة الحمراء، ولكن سرعان ما يرتخى الغربال وتعود ريمة لأسوأ من عادتها القديمة، أما الذى لم نسمع عنه ولم نشاهده فى المحروسة، وخاصة فى عاصمتيها القاهرةوالإسكندرية، فهو الانضباط فى الطرز المعمارية للأبنية الحديثة أى شكل الواجهات ولون الطلاء وغيره ثم الحفاظ على الطرز القديمة كالقاهرة الخديوية، وبعض مناطق «الجريكورومان» فى الإسكندرية.. وفى هذا السياق أذكر صديقى المصرى الذى عاش فى لندن وتملّك منزلاً فى أحد أحياء العاصمة البريطانية، وعرف أنه لا يمكنه العبث مع الطراز المعمارى ولا مع التقسيم الداخلى للمنزل، ولكنه أراد ذات يوم أن يوسع قليلاً فتحة النافذة التى تطل على الحديقة الخلفية الصغيرة.. يعنى لا هى واجهة ولا طراز معمارى ولا غيره.. وبدأ حضرته فى خلع حلق الشباك القديم وما هى إلا دقائق، و«الزمامير» البوليسية تحاصر المنزل وتتحرر مخالفة ويوقف العمل، لأن جيران سيادته شاهدوا ما يجرى فأبلغوا! كل الكلام السابق أوجهه للصديق سمير مرقس الذى تولى مسئولية التنسيق الحضارى، ولا أدرى هل يمكن توسيع مفهوم هذا التنسيق ليتجاوز حكاية المبانى التاريخية إلى ما هو بالأهمية نفسها وربما أكثر أى تعليم الناس.. كل الناس، ماذا يعنى الالتزام الحضارى والحفاظ على التراث وكيف هو السلوك المتحضر فى الشارع وفى البلكونة وداخل السيارة وعلى المقهى والرصيف؟!