أهدتني زميلتي الأستاذة الدكتورة سهير حواس صفحة من أحد أعداد جريدة الأهرام عام 1950 . للأسف لم يظهر التصوير الفوتوغرافي للصفحة تاريخ اليوم أو الشهر . الصفحة عبارة عن مقال بعنوان " صيانة مدينة القاهرة " ، تتوسطها صورة فوتوغرافية مكتوب أسفلها : " شارع الزيادة أمام الواجهة القبلية للجامع الطولوني " . والصورة تتضمن بيوتا ذات ارتفاع واحد علي أحد جانبي الشارع مبنية بالطراز الإسلامي وتنتشر المشربيات علي واجهاتها . تذكرت أنني كنت في زيارة لمنطقة مسجد ابن طولون منذ بضعة اشهر وطفت حول المسجد ، ولا أتذكر أنني رأيت بيوتا بمشربيات كالمنشورة في الصورة . بما يعني أنه خلال الستين عاما الماضية أخذت هذه البيوت التراثية الجميلة تختفي بيتا وراء الآخر . المدهش أنني عندما قرأت المقال وجدت كاتبه يشكو من تدهور عمران القاهرة ويطالب بصيانة المدينة واستصدار تشريعين علي وجه التحديد يساعدان علي تحقيق هذه الصيانة ! وكأنه يطالب بإنشاء جهاز للتنسيق الحضاري ، واستصدار القانونين رقم 144 الذي صدر عام 2006 لحماية المباني المتميزة ، ورقم 119 لسنة 2008 الخاص بالتخطيط العمراني والتنسيق الحضاري وأعمال البناء . أي أن إنشاء جهاز التنسيق الحضاري وصدور القانونين السابقين تأخرت ستين عاما !! كنت أقول من قبل أن تدهور العمران المصري بدأ منذ خمسين عاما ، ولكن هذا المقال يزيد عشر سنوات علي هذه المدة . فتخيلوا ماذا ينتج عن ستين عاما من تدهور العمران في القاهرة العاصمة التي ينصب عليها أغلب اهتمام الحكومات المتعاقبة ؟ وما بالنا بحالة العمران في باقي أنحاء مصر ؟ يركز المقال علي منطقة القاهرة الفاطمية ، وأنا أفضل هذه التسمية عن " القاهرة التاريخية " لأن القدم ، وهو المقصود بالتاريخ ، ينطبق علي مناطق أخري أيضا . بل إن المنطقة المجاورة للقاهرة الفاطمية أقدم منها ، وهي المنطقة التي نطلق عليها " مصر القديمة " ، وكنت أسمع من والدي رحمه الله ، وهو أحد أبنائها ، يطلق عليها باللهجة العامية اسم " مصر عتيقة ". يوضح المقال حدود القاهرة الفاطمية كالتالي : شرقا شارع الدراسة وغربا شارع الخليج وجنوبا باب زويلة وتحت الربع وشمالا بابا الفتوح والنصر . ويوضح مظاهر الجمال التي كانت تميز عمران هذه المنطقة . وجمعها لمختلف الأسواق المتخصصة مثل : الكتبيين ، من الكتب، والصاغة والخراطين والفحامين والسلاح والنحاسين حتي الرسامين والموسيقيين . يتناول المقال التوسع العمراني الذي حدث للقاهرة قبل عصر الخديو إسماعيل : فامتد عمرانها الي الجنوب واتصلت بقطائع ابن طولون والفسطاط ، وعبرت النيل حيث جزيرة الروضة . وامتد عمرانها شمالا حيث الحدائق الي المطرية ، وغربا علي ضفتي الخليج حيث انتشرت المتنزهات . وبعد الخديو إسماعيل امتد عمران القاهرة الي الاسماعيلية ، ميدان التحرير ، والتوفيقية وقصر الدوبارة ، جاردن سيتي ، والجزيرة والجيزة . طبعا لو عاش كاتب المقال لأضاف التوسعات العمرانية التي حدثت حتي وصلت محافظة القاهرة الي قليوب ودخلت كليومترات في طريقي الاسماعيلية والسويس . ولم ير الكاتب تضخم القاهرة إلي " إقليم " يضم ربع سكان مصر! مع ذلك يشكو المقال من أن التوسعات التي ذكرها قضت علي الكثير من القصور القديمة . وطالب بضرورة الحفاظ علي حدائق إسماعيل ، الأورمان ، وبقايا أشجار الجميز علي شواطئ النيل بالروضة وحدائق شريف باشا ومصر القديمة . أرجو من محافظة القاهرة أن تخبرنا عن عدد أشجار الجميز الموجودة الآن علي شواطئ النيل في المناطق السابقة إن كان هناك جميز . ثم يتساءل المقال : ولكن أين القانون الذي يحمي مواطن الجمال التي من الواجب الإبقاء عليها؟ مات كاتب المقال بالطبع وهو لم يعرف أن القانونين اللذين طالب بهما صدرا بعد مقاله بأكثر من 55 سنة كانت مالطة خلالها قد خربت. الأنكي أن ينعي المقال المناطق الأثرية " التي أخذت تغزوها المنشآت الحديثة " ! تصوروا سنة 1950!! نقرأ " أخذت الدور الحديثة تلاصق المساجد الأثرية فشوهت جمالها وطغت عليها وقضت علي روعتها ". لم يعش الكاتب ليري أبراج القلعة مثلا . وهذا من حسن حظه ومن سوء حظنا . يخبرنا الكاتب ما لم أكن أعلم ، وهو أن إدارة حفظ الآثار العربية كانت تقوم مقام الجهاز القومي القومي للتنسيق الحضاري فقررت أن يكون البناء في ميدان المنشية ، ميدان القلعة ، وحول جامع ابي العلاء " علي طراز عربي مبسط . ومن أراد أن يكون بيته علي طراز عربي سليم أمدته إدارة حفظ الآثار العربية بالرسومات والإرشاد .. وقد نجحت الفكرة فأنشأ المرحوم الحاج أحمد راشد منزله خلف مسجد الرفاعي علي طراز عربي جميل .. وكذلك المباني حول مسجد أبي العلاء فقد أنشئت المنازل المجاورة والمقابلة علي الطراز العربي البسيط للواجهات دون التأثير علي تصميمها الداخلي " . المقال هنا يثير قضية مهمة هي الحفاظ علي الطابع المعماري للشارع أو للمنطقة وكيفية تحقيقه . يوضح أن إدارة الآثار العربية وقتها قررت أن يكون الحفاظ باستمرار الطراز المعماري نفسه . لكن الأمر اختلف بعد ذلك، وتعددت وجهات النظر ومنها من تري عدم بناء الجديد علي الطراز القديم. ووصلت وجهات النظر الي التطرف فرأينا تشييد مبان جديدة بواجهات كاملة من الستائر الزجاجية بجوار وأمام المباني التراثية ذات الطرز القديمة. علي كل حال فإن قراءة مثل هذا المقال تفيد في إعادة فتح النقاش حول هذه النقطة المهمة. لما لم يكن هناك قانون للحفاظ علي الطابع المعماري يذكر الكاتب أن إدارة الآثار العربية اعتمدت علي التفاهم الودي مع الملاك ووسائل الترغيب . " ونجحت في ذلك في منزل مصطفي بك السادة الملاصق لجامع الغوري علي شارع الأزهر فقد ساهمت في إنشاء واجهة له علي طراز عربي حفظ للمجموعة الأثرية المتصل بها جمالها " . وقد حافظت إدارة الآثار العربية علي ميادين أيضا . منها ميدان باب زويلة " فقد شيدت واجهات جديدة في وقف الأمير رضوان بك إمام مسجد الصالح طلائع طبقا لأصلها . أصلحت واجهتي منزل الآلايلي الثري والواجهة المتصلة بها من منزل فضيلة الشيخ القاياتي . وكذلك قامت برسالتها عند فتح شارع الأزهر فأنشأت واجهة جديدة لجامع القاضي يحيي. كما عنيت بإصلاح واجهة خان الزراكشة بميدان الأزهر ". أي أن إدارة حفظ الآثار العربية كانت تقوم أيضا بعمل المجلس الأعلي للآثار حاليا فيما يتعلق بالآثار الإسلامية . يشكو المقال من ضآلة ميزانية الإدارة التي لم تسعفها علي السير في تنفيذ سياستها ! وتحدث عن حل آخر للحفاظ علي التراث المعماري وهو نزع ملكية كثير من العقارات لانتزاعها من عبث ملاكها . وقد دعم هذا الحل الدكتور طه حسين باشا وزير المعارف ، وهو الوزير المختص بالتعليم والثقافة وقتها . هو الحل تقريبا الذي جاء بعد ذلك بكثير في القانون 144 لسنة 2006 ولم ينفذ للسبب ذاته وهو افتقاد التمويل . هذا حدث من ستين عاما . فهل تعلم عزيزي القارئ أن العمارة الحديثة التي وردت بالمقال ومنع الملك إقامتها قد أقيمت بعد زوال الملك ولم تجد من يمنعها ؟؟