عرضنا فى مقال الأسبوع الماضى نماذج للفساد الذى تتبناه الدولة وترعاه بوعى أو بغيره، والذى يشكل مع «الإرهاب» الخطر الأكبر الذى يهدد الدولة والوطن. وينشأ ذلك الفساد عن تصرفات الدولة أو تراخيها وامتناعها عن التصرّف اللازم فى أوقات كثيرة ويترتب على ذلك فراغ تشريعى أو إدارى يؤدى إلى ظهور ونمو وانتشار أنواع أخرى من الفساد يمارسه أفراد وجماعات وطوائف فى المجتمع يستغلون ذلك الفراغ لتحقيق منافع لهم فى غياب سلطة الدولة ورقابتها، والنتيجة تكون اتساع دائرة الفساد وإهدار مزيد من موارد الدولة وضياع حقوق مواطنين يستولى عليهم من هم غير مستحقين لها، إلى حد تهديد أرواح مواطنين أبرياء، كل ذنبهم أنهم وثقوا فى قدرة الدولة على حماية حقوقهم وممتلكاتهم وأرواحهم! ولعل المثال الأوضح والأخطر هو ما تمارسه الجماعة الإرهابية وأعوانها من اغتيالات وتفجيرات تودى بحياة مواطنين شرفاء من الشرطة والقوات المسلحة وأبناء الشعب، مستغلة تباطؤ الدولة فى إصدار قانون الإرهاب واختيارها اللجوء إلى القضاء العادى فى محاكمة الإرهابيين والخونة وأعداء الوطن، بدلاً من إخضاعهم للقضاء العسكرى! وما نشأة ونمو التجمعات السكنية العشوائية وشيوع ظاهرة البناء بغير تصاريح بناء أو بالمخالفة لشروط التراخيص وبغير الالتزام بقواعد الارتفاعات إلا مظهر لفساد مجتمعى يستند إلى فساد إدارى فى أجهزة الدولة. ونحن نعتقد أن قانون التصالح فى مخالفات البناء يدعم فشل الدولة فى فرض قوانين وقواعد البناء، الأمر الذى يشجع على المخالفة التى يكافئها القانون. وما حالات انهيار العقارات فى كل مدن المحروسة إلا نتيجة للفشل فى مواجهة الفساد المجتمعى الذى يستغل الفراغ التشريعى والإدارى والفساد السائد فى الإدارات الهندسية فى المحليات وعدم قدرة الدولة على فرض القانون نتيجة فشلها فى تحقيق مطالب المواطنين فى الحصول على مسكن آمن. من جهة أخرى، فإن فشل الأجهزة الهندسية والأمنية المختصة فى فرض الالتزام بمواصفات ومعايير البناء فى المناطق السكنية ينشأ عنه انتشار ظاهرة العقارات المخالفة لتصاريح البناء، أو التى لم تصدر لها تصاريح من الأصل، ثم فى بعض الأحيان تستفيق بعض المحافظات وتبدأ فى إزالة عقارات تكلفت مئات الملايين من الجنيهات! كما تتفشّى ظاهرة البناء على الأراضى الزراعية فى غيبة أو تجاهل من أجهزة الدولة المسئولة عن منع تلك التعديات! كذلك ينمو الفساد المجتمعى لفشل الدولة وأجهزة المحافظات فى منع وجود أنشطة صناعية أو مقلقة للراحة أو ضارة بالبيئة وصحة الإنسان وسط التجمعات السكنية، مما ترتب عليه أن شغلت أهم العقارات فى وسط القاهرة والقاهرة الخديوية مثلاً بورش صناعية ومخازن تهددها بالخطر الجسيم، فضلاً عما تسببه لقاطنى تلك العقارات من أضرار مادية ونفسية، وما تلحقه بالعقارات ذاتها من إتلاف وانتشار المخلفات بها. بالمنطق نفسه، فإن انتشار ظاهرة احتلال الباعة الجائلين لأرصفة الشوارع والميادين فى عاصمة المحروسة ومدنها جميعاً هى صورة صارخة لفشل الدولة فى فرض القانون والمحافظة على حقوق المواطنين الذين يملكون متاجر والسكان القاطنين فى العقارات فى تلك المناطق. ومن صور الفساد المجتمعى المترتب على الفساد الناشئ عن فشل الدولة فى تنفيذ ما تعلن عنه أن تراكمت أكوام وتلال القمامة فى أغلب مناطق العاصمة ومدن المحروسة وفشل مشروعات «الفصل من المنبع» وعدم القدرة على فرض رقابة دقيقة على شركات جمع القمامة سواء المحلية أو الأجنبية المتعاقدة مع المحافظات. والنتيجة تمادى المواطنين فى سلوك غير إيجابى بإلقاء القمامة والمخلفات فى الشوارع، وتشارك فى تلك الممارسات الضارة بالبيئة مستشفيات ومصانع وفنادق وغيرها من مؤسسات كان مفروضاً فيها الالتزام بالقانون والحرص على الصحة العامة والمحافظة على البيئة! ولعل من مظاهر الفساد تقاعس الدولة المستمر عن دعم شركات قطاع الأعمال العام بعد برامج البيع والخصخصة، إذ يجد عمال تلك الشركات أنفسهم ضائعين، فلا هم ينعمون بمساعدة الدولة فى ضخ الاستثمارات اللازمة لتجديد آلات ووسائل الإنتاج وتطوير وتحديث المنتجات، ولا هم لحقوا بشركات القطاع الخاص، ومن ثم نشأت صورة من الفساد المجتمعى هى أن لجأ العاملون إلى الاعتصامات والتظاهر ومناهضة الإدارة وتبادل الاتهامات بينهم والمطالبات المستمرة بعزل القيادات الإدارية وحل مجالس الإدارة وحتى مجالس النقابات، والدولة فيما يشبه المغشى عليه أو هى من كل ذلك فى حالة موات!! وتتزايد مظاهر الفساد المجتمعى الناشئ عن فساد الجهاز الإدارى للدولة المتمثل فى إهمال إحياء مشروعات مضى عليها عشرات السنين، وهى متعثرة أو متوقفة تماماً، فوسفات أبوطرطور ومشروع فحم المغارة، وحديثاً كُشف النقاب عن مشروع مياه القاهرة الجديدة الذى أحاله وزير الإسكان إلى النائب العام! كذلك فإن إهمال أجهزة الدولة فى تطبيق لوائح ومعايير الترخيص بإنشاء العيادات والمستشفيات الخاصة أو التابعة لجمعيات أهلية مع غياب الإشراف الفعلى عليها، شجع على وجود آلاف من تلك المؤسسات الطبية والعلاجية لا تتصف بالحد الأدنى من المتطلبات التى تسمح لها بممارسة مهن الطب والعلاج! وبالمنطق نفسه، انتشرت مصانع «تحت السلم» للأدوية تنتج سموماً وليس دواءً فيه شفاء للناس! والأمثلة لا تُعد ولا تُحصى على انتشار الفساد المجتمعى الذى يمارسه الناس فى المحروسة، مستغلين فساداً أكبر تمارسه أجهزة الدولة بإصدارها قوانين وقرارات لا تُنفّذ، أو بضعف الرقابة وغيابها عن كثير من الأنشطة المجتمعية، ومن ثم يتضافر الفاسدون والمفسدون فى الجهاز الإدارى للدولة مع الأفراد والجماعات فى المجتمع، المستفيدون إفشال جهود التنمية الوطنية وتطوير شكل الحياة فى المحروسة. وإلى الأسبوع المقبل.