كتبة التاريخ وأساتذة الأدب وعلماء الدين.. فلاسفة وأطباء، سطرت أناملهم أوراقاً ورقوقاً، تبعثرت فى الماضى السحيق لعوامل شتى، قبل أن تجمع وتكدس فى مغائر ببرارى مصر أو غرف سرية داخل الحصون التى أقيمت بالصحراء فى القرون الأولى للمسيحية وأطلق عليها أديرة، عكف على دراستها وتأملها نساك تركوا الدنيا وزخرفها وكرسوا حياتهم لعبادة الله والبحث عن الخلاص أطلق عليهم لفظ «رهبان»، استزادوا منها وزادوا عليها علماً وأدباً وفناً وشعراً وفلسفة، طربوا بالموسيقى فأدخلوها فى صلاتهم، وانبهروا بمعابد الفراعنة والرومان واليونانيين، فمزجوها فى عمارتهم. وفى يومنا هذا نهرول بحثاً عن قصاصات منسية لشاعر معروف، أو متن مجهول لكاتب كبير، أو نفتش فى سيرة لمؤرخ رحل كتب عن الجميع ونسى أن يكتب عن ذاته لنعيد تاريخه صباحاً ومساءً، وتركنا فى وسط ذلك البحث عن تاريخنا وتراثنا المتراكم داخل المخازن لأيدى وعيون الغرب يكتبون لنا صفحات ماضينا، ويستفيدون من الكنز المهمل والمنهوب لصنع حاضرهم ورسم مستقبلهم. ولم يعرف التاريخ تراثاً دخل «مغارة اللصوص» أكثر من التراث القبطى، الذى رغم أهميته كإرث إنسانى عظيم لا يوجد من ينقب فيه سوى 700 باحث على مستوى العالم، ولم تستيقظ الدولة لحمايته إلا بعد قرون من محاولات الكنيسة التى نصّب رجالها أنفسهم حراساً على أسرار الحضارة والتاريخ. المخطوطات تحت حراسة بطاركة الكنيسة.. والمكفوفون حفظوا الألحان داخل صدورهم ما زلنا داخل مكتبة الدير الأثرى الواقع بمنطقة وادى النطرون، التى تشم بين أركانها رائحة الكتب العتيقة وعبق تاريخ السابقين الأولين، وتشهد ضخامة محتواها من المخطوطات على مكانتها الرفيعة بين دوائر العلم والبحث وكمستودع للمعرفة، ويجلس على مكاتب المطالعة رهبان وباحثون يعكفون على البحث والدراسة، رغم أنه تختفى من على جدرانها السمات الجمالية، أخرجنا من التأمل فيها دليلنا الراهب القبطى صاحب الاسم المستعار «الأب كيرلس»، الذى أخذ يتحدث كيف أن العالم عرف تجليد الكتب وتزيينها على يد الرهبان الأقباط، بل يؤكد أن العالم لم يعرف حتى الآن أقدم كتاب سوى ذلك الذى احتوته مكتبة نجع حمادى المكتشفة عام 1945م، مشيراً إلى أن الأديرة بما حوته من مكتبات كانت المشاعل التى أبقت نور الحضارة متقداً. البابا كيرلس الرابع اشترى أول مطبعة للكنيسة مسك الراهب بين يديه مخطوطة قبطية قال إنها ترجع إلى القرن التاسع الميلادى، مشيراً إلى أنها ما كانت لتوجد حتى الآن إلا بفضل مجهود الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ورهبانها خلال القرون الأخيرة الماضية، الذين عملوا على صيانتها وحمايتها بعد عمليات سلب وسرقة ممنهجة تمّت للتراث القبطى، إذ يسجل التاريخ أول محاولة للاهتمام بهذا التراث لوقف سرقته فى القرن التاسع عشر الميلادى وتحديداً فى عهد البابا بطرس السابع أو بطرس الجاولى (1809 - 1852م)، البطريرك ال109 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والذى كان راهباً محباً للدراسة ومطالعة الكتب على اختلاف أنواعها، فلما جلس على الكرسى البابوى عام 1809م لم يكن للدار البطريركية مكتبة بالمعنى المعروف، نظراً لما تعرّضت له الكنيسة فى الأزمنة السالفة من نهب وتخريب، فأخذ يجمع المراجع التاريخية والأسفار اللاهوتية والطقسية من جهات متفرقة، حتى حصل منها على مجموعة ثمينة، كان من بينها عدد من المخطوطات النادرة، ولما ازداد رصيده من هذه المجلدات النفيسة أعد لها مكاناً فى المقر البابوى بالقاهرة يتناسب مع قيمتها، وأخذ بنفسه يرتبها، ووضع لها سجلاً خاصاً، كما كلف عدداً من مشاهير النُسَّاخ بنسخ الكتب الفريدة التى جاء بأصولها من دير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر، ومن الكنائس الأثرية فى القاهرة. أول محاولة للاهتمام بالتراث القبطي كانت فى عهد البابا بطرس الجاولي الذي أنشأ أول مكتبة بالمقر البابوي للمخطوطات النادرة في القرن التاسع عشر ولما خلفه فى الكرسى البابوى، البابا كيرلس الرابع (1816 - 1861م)، البطريرك ال110 للكنيسة، والملقب ب«أبوالإصلاح»، أنشأ المدرسة القبطية الكبرى بالبطريركية، وفتح مدرسة أخرى فى حارة السقايين فى حى عابدين بوسط القاهرة، وشدّد على تعليم اللغة القبطية فيهما، كما اشترى مطبعة كبيرة طبع فيها عدة كتب كنسية. الاهتمام بالكتب عاد للأديرة مع دخول الرهبان الجامعيين في النصف الثاني من القرن العشرين وفى بداية القرن العشرين، تم إنشاء المتحف القبطى الذى احتوى على جزء كبير من المخطوطات القبطية، كما تم إنشاء جمعية الآثار القبطية عام 1934م التى عنيت بالحفاظ على المخطوطات القبطية، إلا أنها تهاونت فى هذا الأمر بعض الشىء، ولم يتم الاعتناء بالكتب والمخطوطات القبطية إلا مع دخول الرهبان الجامعيين إلى الأديرة فى النصف الثانى من القرن العشرين فتوسّعت عملية البحث والدراسة داخل الأديرة القبطية، وانتشرت المكتبات الكبرى التى تحتوى هذا الأمر مثل دير مارمينا فى مريوط بالإسكندرية، وأديرة وادى النطرون، خاصة «دير أبومقار» البابا يوساب الثاني أسس أول معهد للدراسات القبطية بالكنيسة وقبلها تم تأسيس معهد الدراسات القبطية عام 1954م فى عهد البابا يوساب الثانى (1876 - 1956م)، البطريرك ال115 للكنيسة، بهدف دراسة «التراث القبطى» من (لاهوت، فن، موسيقى، ألحان، آثار وعمارة، تاريخ، لغة وأدب، اجتماع ودراسات أفريقية)، وذلك بحثاً، وتحقيقاً، وترجمة، ونشراً، وتسجيلاً أو تدويناً، وترميماً، وتعليماً. البابا شنودة أطلق مشروعاً لتجميع المخطوطات وإنشاء مكتبات قبطية متكاملة وكلف مؤسسة «مارمرقس» بجمع وتوثيق التاريخ القبطي وفى 1989م، أطلقت الكنيسة على يد البابا شنودة الثالث (1923 - 2012م)، البطريرك ال117 للكنيسة، مشروعاً لتجميع المخطوطات القبطية وإنشاء مكتبات قبطية متكاملة، وذلك بعد سنوات من تناثر المخطوطات القبطية فى مكتبات الأديرة، أو مكتبة البطريركية بالقاهرةوالإسكندرية، أو فى مكتبات بعض الكنائس القديمة، أو فى المتحف القبطى، وهى المخطوطات التى كانت وقتها فى حاجة إلى ترميم، فضلاً عن المخطوطات القبطية الكثيرة فى مكتبات الغرب التى يوجد البعض منها فى «مكتبة المتحف البريطانى، ومكتبة الفاتيكان، ومتحف اللوفر، وفى النمساوألمانيا وبعض دول أوروبا وأمريكا»، والتى لا يمكن استرجاعها، وكانت تلك المخطوطات مادة لبعض علماء القبطيات الذين نشروا بعضها فى كتب خاصة، وفى بعض المجموعات العلمية ك«كتابات الآباء الشرقيين» فى باريس. وكان الهدف من المشروع البابوى وقتها، هو الحصول على بعض تلك المخطوطات عبر «الميكروفيلم»، أو ب«الميكروفيش»، وتم توقيع اتفاقية مع مؤسسة «الأهرام» لإعداد مركز للميكروفيلم وتزويده بالآلات وإعداد الإخصائيين اللازمين لإدارته وتدريبهم تدريباً فنياً، وتم تكليف «الراهب سلوانس آفامينا» بتلك المهمة، وهو الذى قام بمجهود مماثل فى دير مارمينا بمريوط. وكانت الكنيسة تستهدف عبر هذا المشروع الذى لم يكتمل، إعداد النسخ الأصلية التى يمكن عمل نسخ منها وتوزيعها على المكتبات الفرعية، خاصة فى دول المهجر والمكتبات الإكليريكية وفروعها والمعاهد الدينية، وكذلك مراجعة فهرسة جميع المخطوطات فى جميع الأديرة والكنائس والمكتبات فى مصر والخارج. وفى 1998م، تم تأسيس «مؤسسة القديس مرقس لدراسات التاريخ والتراث القبطى» على يد الدكتور فوزى إسطفانيوس، أستاذ التخدير السابق بمستشفى كليفلاند بالولايات المتحدةالأمريكية، وحظيت على رعاية وإشراف البابا شنودة الثالث، الذى خصص لها مكتباً فى معهد الدراسات القبطية، وكلفها بالبحث وجمع وتوثيق ونشر المعلومات عن التاريخ القبطى من وصول المسيحية إلى مصر حتى اليوم. مكتبة الإسكندرية أسست مركزاً للدراسات القبطية عام 2013 وتعاونت مع الكنائس لترميم المخطوطات وتم تسجيل المؤسسة كهيئة دولية بالولايات المتحدة عام 2001م، وعقدت المؤسسة عدة مؤتمرات دولية بحضور الكثير من علماء القبطيات بالعالم، اعتباراً من 2002م، كما بدأت المؤسسة فى ترميم وفهرسة مكتبة دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون، وذلك مع عكوفها على إعداد الكثير من الكتب القبطية، مثل تاريخ القديس مرقس مؤسس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. البابا تواضروس أنشأ وحدة علمية لحفظ التراث القبطي وأعلن السعي لاستكمال جهود البابا شنودة لاستكمال تأسيس أول مكتبة إلكترونية للمخطوطات القبطية في مصر والعالم ولكن المشروع تعثر ومع بداية عهد البابا تواضروس الثانى، البطريرك الحالى للكنيسة، وهو المهتم بالكتب منذ صغره، فقد حرص على حضور وافتتاح مؤتمرات المؤسسة بصفته رئيسها وذلك منذ فبراير 2013م، وشجع عملها الأكاديمى، وكلفها بالحفاظ على التراث المعمارى والفنى القبطى بجميع الأديرة والكنائس وإبقاء عناصره المعمارية دون تحديث، مع توثيق فورى لكل ما يكتشف فى الحفائر أو أثناء عمليات الترميم، وتأسيس مكتبة إلكترونية خاصة بالمخطوطات المحفوظة فى الأديرة والكنائس والمتاحف والمكتبات العالمية فى مصر والخارج للحفاظ على التراث والتاريخ والحضارة القبطية بجميع الوسائل. وكانت المكتبة الإلكترونية فكرة البابا الراحل شنودة الثالث، وزار الأنبا كيرلس آفامينا، أسقف ورئيس دير مارمينا بمريوط، بصحبة الراهب «القمص إيليا آفامينا»، مكتبة الكونجرس بالولايات المتحدة، وقسم الشرق الأوسط وأفريقيا فيها فى 30 يناير 2006م، وأعقبت ذلك فى 25 مايو 2006م زيارة وفد من مكتبة الكونجرس لمدة يوم واحد إلى دير مارمينا بمريوط، حيث زاروا الكاتدرائية والمكتبة الاستعارية ومركز الميكروفيلم فى الدير، من أجل إنجاز هذا المشروع، وذلك بالتوازى مع مناقشة لجنة شئون الأديرة بالمجمع المقدس كيفية الحفاظ على المخطوطات والتراث القبطى وحصره، وكيفية استخدامه ونشره علمياً، وأساليب إتاحته للدارسين، واتخذت عدة خطوات أولية لكنها لم تكتمل وتوقف المشروع لأسباب كثيرة، وفى هذا السياق اجتمع البابا تواضروس، يوم 3 أكتوبر 2014م، مع الأنبا كيرلس آفامينا، والقمص إيليا، والقمص بوليكاربوس آفامينا، لبحث كيفية استكمال ما تم من خطوات، وتم الاتفاق على دعوة المهتمين والراغبين فى هذا المشروع ومن لهم رؤية للاجتماع فى دير مارمينا بمريوط لوضع خطة عمل لهذا المشروع الحيوى، وتم تكليف القمص بوليكاربوس آفامينا بتنسيق العمل، قبل أن يتم تكليف «مؤسسة القديس مرقس» بهذا الغرض. كما كلف البابا تواضروس، المؤسسة ذاتها بترجمة دائرة المعارف القبطية وإعداد موقع إلكترونى على الإنترنت لإتاحة الترجمة أمام الجميع، وافتتح البابا مقراً جديداً للمؤسسة فى الذكرى الخمسين لعودة رفات مارمرقس (مؤسس الكنيسة) لمصر فى 2018م، وفى أكتوبر 2019م كلف البابا المؤسسة بإنشاء وحدة علمية لحفظ التراث القبطى تعتنى بكل نوعياته، مع إعداد كوادر دراسية على مستوى علمى متخصص فى دراسة وصيانة وحفظ مقتنيات هذا التراث، وتأهيله لخدمة العلماء والباحثين والمهتمين بمثل هذه الدراسات، ويكون مجلس إدارة المؤسسة مسئولاً عن هذه الوحدة مالياً وإدارياً. كما تواكب مع وصول البابا تواضروس لسُدة الكرسى المرقسى فى 2012م، الاهتمام الحكومى بالحقبة القبطية، إذ قامت مكتبة الإسكندرية فى 2013م، بتأسيس مركز الدراسات القبطية التابع لقطاع البحث العلمى، وذلك بهدف إعادة الاعتبار والاهتمام والحفاظ على هذا التراث ليس بوصفه قبطياً فقط بل هو مصرى فى الأساس، مع التعريف بالتراث والثقافة القبطية كواحد من الروافد الرئيسية للثقافة المصرية، والنشر والتوعية بأهمية التراث القبطى، وتدريب وتأهيل كوادر قادرة على العمل فى مجالات البحث العلمى والحفاظ على التراث القبطى المعرَّض أكثر من غيره للزوال والاندثار، ووضع مواقع التراث والآثار القبطية محل اهتمام محلى وعالمى، وزيادة الاهتمام بحمايتها وترميم المعرَّض منها للدمار والتلف، والمساهمة فى حفظ التراث القبطى المادى كالآثار والمخطوطات، والشفهى كالعادات والتقاليد والموسيقى القبطية وغيرها، وذلك عن طريق الجمع والتوثيق والتصنيف، وتشجيع الباحثين المصريين على نشر ودراسة التراث القبطى من خلال إتاحة المادة العلمية لهم وطبع أعمالهم، ومن خلال تبادل الخبرات مع المراكز البحثية المحلية والعالمية. وأطلق المركز مجلة جديدة بعنوان «Coptica Alexandrina CA» تهدف إلى نشر المقالات العلمية للدارسين والباحثين من حول العالم، وتركز على مختلف مجالات الدراسات القبطية، مثل «اللغة القبطية، التاريخ، علم الآثار، تاريخ الفن القبطى، الدين، الدراسات الاجتماعية، حفظ التراث، علوم البرديات العربية واليونانية، الدراسات الإسلامية ذات الصلة (مثل الحوار الإسلامى المسيحى)، الآثار اليونانية الرومانية، التاريخ القبطى الحديث، والتراث العربى المسيحى». وسبق أن منح البابا شنودة الثالث مكتبة الإسكندرية 760 ألف صفحة من المخطوطات القبطية، وذلك عام 2003م، ووقَّعت المكتبة مذكرات تعاون مع بطريركية الروم الأرثوذكس بالإسكندرية لترميم مخطوطاتها. وبدأ بالتوازى مع ذلك اهتمام الجامعات المصرية بالدراسات القبطية، فافتتحت جامعة الإسكندرية معهد البحوث والدراسات القبطية بكلية الآداب عام 2010م، وافتتحت جامعة دمنهور قسم القبطيات بكلية الآداب. بل وقام مجموعة من الباحثين الأقباط من محبى ودارسى التراث القبطى بمحاولة إنقاذ لهذا التراث عبر جمعه وإتاحته على شبكة الإنترنت عبر ما يُعرف بموقع «مشروع الكنوز القبطية»، ويرأس المؤسسة مهندس إنشائى استشارى بأستراليا هو «عاطف وجيه»، ويرأس تحريره استشارى التخدير بالمستشفى الملكى ببرسين فى أستراليا «عماد مكرم». وفى خطوة هى الأولى من نوعها، عبر مبادرة مجتمعية، دشن مجموعة من الباحثين والشباب حملة على مواقع التواصل الاجتماعى باسم «الأقباط المسلمون»، تضم مجموعة من الدارسين المسلمين الذين أشاروا إلى أن هدفهم إحياء الهوية المصرية وإزالة الجهل عنها، ويقول الشابان «أحمد عطية وأحمد عامر» إن حملتهم موجهة إلى المصريين بصفة عامة والمسلمين بصفة خاصة، من أجل التعريف بالهوية القبطية، حيث أصبحت كلمة «قبطى» عند رجل الشارع المصرى تعنى «مسيحى» و«اللغة القبطية» أصبحت تعنى اللغة المسيحية، والسعى لإنشاء مجمع للغة القبطية. ورغم تلك المجهودات، فإن السرقات تواصلت للتراث القبطى، ومخطوطاته فى ظل افتقار المخطوطات القبطية فى مصر إلى عمل أكاديمى منظم لمن لهم خبرة فى علم المخطوطات «كوديكولوجيا Codicology»، رغم أن هناك بعض الأعمال الفردية، لكن ليس على الغرض المطلوب. وإذا كانت تلك رحلة الحفاظ على التراث القبطى «المخطوط»، فهناك حراس آخرون يصفهم الراهب دليلنا فى الرحلة «الأب كيرلس»، ونحن جالسون متحلقون حول طاولة القراءة داخل المكتبة بعد أن تفقدنا أركانها، قائلاً إن «مكفوفين قبضوا على جمر الألحان القبطية التى يعود بعضها إلى الحضارة الفرعونية، بدون نوتة موسيقية أو التسجيلات الموجودة حديثاً فى عالم الموسيقى، حفظوا التراث المصرى القديم من الألحان (الفرعونية وما أدخل بعد ذلك فى القرون الأولى للمسيحية)، شفوياً، وسلموه من جيل إلى جيل على مدى ألفى عام، كحراس على هذا الإرث الموسيقى الذى يصدح بين جنبات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إلى اليوم». هممنا بالخروج من المكتبة، فتهادت إلى آذاننا أصوات الشمامسة وهم يضربون على الدفوف مرددين صلوات باللغة القبطية يتردد صدى صدحها داخل صحن حجرى كبير ومكشوف، فاستكمل الراهب الحكى كأنه فى محفل سردى، مشيراً إلى أن مخطوطة قبطية تعود إلى ما بين القرنين العاشر والحادى عشر الميلادى، عكف على دراستها عالم القبطيات الإنجليزى «والتر إوينج كرم (1865 - 1944م)»، تحتوى على أول نوتة موسيقية للألحان القبطية. إلا أن الباحث فى الألحان الكنسية، مايكل حلمى، شكَّك فى ذلك، قائلاً ل«الوطن»: «إن تلك المخطوطة عبارة عن تقسيم للكلمات المنغمة بطريقة مفردة لإلقائها فى أحد المسارح وليست نوتة موسيقية للحن قبطى»، مشيراً إلى أنه مع مجىء الحملة الفرنسية إلى مصر (1798 - 1801م) حاول أحد أعضائها، ويدعى «فيلوتو»، تدوين أول نوتة للألحان القبطية، إلا أنه فشل فى ذلك، لافتاً إلى أن الحفاظ على الألحان القبطية يأتى فى المقام الأول على يد المكفوفين الذين استعانت بهم الكنائس لتناقلها شفهياً، حتى جاء المعلم تكلا فى القرن ال19 الميلادى، واستعان به البابا كيرلس الرابع (1854 - 1861م)، البطريرك ال110 للكنيسة القبطية، والذى بفضل مجهوداته وتشجيعه استعادت الألحان القبطية صحوتها بعد فترة الركود، وأوكل البابا إلى «تكلا» مهمة جمع الألحان من صدور الأقباط، فجاب البلاد طولاً وعرضاً، وما من لحن وجده سليماً إلا واعتمده، فصار معلم الكتّاب الملحق بالكنيسة البطريركية، الذى كان يتعلم فيه أولاد الأعيان، إلى أن أنشأ البابا كيرلس مدرسة الأقباط الكبرى فعيَّن المعلم تكلا معلماً للألحان بها، وبعد ذلك رسمه قساً على الكاتدرائية لبالغ اهتمامه بطقس الكنيسة، ونقل تكلا ما تسلمه من ألحان إلى 7 من الأقباط، ومن أشهرهم المعلم مرقس، والمعلم أرمانيوس، حتى تسلمها منهم ميخائيل جرجس البتانونى». وُلد «ميخائيل» بالقاهرة فى 1873م، وظل مبصراً طوال سنوات عمره الثلاث الأولى قبل أن يفقد بصره بعد إصابته ب«الرمد»، وكان والده «باشكاتب» بوزارة المالية، ولم يكن يبخل على ابنه بالمال فى سبيل تعليمه، فأرسله للكُتاب ومنه إلى الأزهر الشريف الذى تعلم بين أروقته لمدة 6 سنوات علوم النحو والصرف والبيان، فيما أرسله للكنيسة كذلك لتعلم الألحان فتتلمذ على يد المرتلين أرمانيوس وصليب (تلميذَى المعلم تكلا)، وما إن بلغ التاسعة عشرة من عمره حتى كان قد استوعب الألحان وملك زمامها، حيث حباه الله بصوت جميل وذاكرة جيدة، فرسمه البابا كيرلس الخامس (1831 - 1927م)، البطريرك ال112 للكنيسة، شماساً فى سنة 1886م، ثم ارتقى إلى منصب كبير المرتلين فى الكاتدرائية المرقسية فى سن مبكرة، وعُيِّن عام 1893م مدرساً للألحان بالكلية الإكليريكية (كلية كنسية تدرس العلوم الدينية)، قبل أن يؤسس «ميخائيل» ما عُرف بمدرسة «العرفاء» وهو لفظ كان يطلق على «فاقدى البصر» وقتها، وأعد كتباً للألحان القبطية على طريقة «برايل» لمساعدة المكفوفين، إلا أن الدور الأكبر له هو اشتراكه مع الدكتور راغب مفتاح فى الحفاظ على التراث الموسيقى القبطى وتسجيله على النوتة الموسيقية بدلاً من توارثها بالتواتر. ففى 1898م، وُلد راغب حبشى مفتاح لأسرة غنية ساعدته على السفر إلى ألمانيا فى 1919م، ليحصل على بكالوريوس الزراعة من جامعة بون، ثم تفرغ بعد ذلك لدراسة تاريخ الموسيقى بأوروبا، قبل أن يعود لمصر فى 1926م، وفى العام التالى بدأ مشروعه فى المحافظة على تراث الألحان والموسيقى القبطية خوفاً عليها من الاندثار بتسجيلها مؤدَّاة بصوت «المعلم ميخائيل»، الذى كان وقتها رئيس مُرتلى الكاتدرائية المرقسية، على عشرات أشرطة الكاسيت، وسخر «راغب» إرث والده فى مشروعه، فاستقدم ثلاثة من كبار الموسيقيين فى العالم، هم: «الدكتور آرن نيولاندسميث الأستاذ بأكاديمية الموسيقى الملكية بلندن، والعالم الموسيقى بلا بارتوك الذى دُعى ب«بيتهوفن القرن العشرين»، وسبق له أن قام بتسجيل كل التراث الموسيقى الشعبى لدولة المجر، والدكتورة مارجريت توت من علماء الموسيقى فى المجر وتلميذة الموسيقار بارتوك، وهى من الخبراء القليلين فى العالم لعلم التدوين السمعى فى الموسيقى»، وكان لراغب ما أتم. وفيما توفِّى «البتانونى» الذى وُصف بالمايسترو العظيم فى 1957م، كان «راغب» أحد المؤسسين لمعهد الدراسات القبطية الذى خدم فيه كرئيس لقسم الموسيقى والألحان، قبل أن يتوفى فى 2001م، بعد أن سجل الألحان القبطية فى 16 مجلداً، أوصى قبل وفاته بإهدائها كاملة إلى القسم الموسيقى بمكتبة الكونجرس بالولايات المتحدة، كما أوصى بنسخة للمتحف الموسيقى بالقاهرة، وفى 2009م احتفت مكتبة الكونجرس بإطلاق مشروعها للموسيقى والألحان القبطية الأرثوذكسية المصرية، فيما تناسته الدوائر الرسمية المصرية، وهو الذى لُقِّب ب«عميد الموسيقى القبطية فى العصر الحديث». وفيما كانت الجهات الرسمية المصرية غائبة عن أى دور ملموس فى عملية الحفاظ على التراث الموسيقى القبطى، إلا أن كلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان هى التى سجلت اسمها كأول كلية بالجامعات المصرية التى تناقش رسائل ماجستير ودكتوراه فى الألحان القبطية، ففى 2014م منحت الباحثة سالى كمال زكريا درجة الماجستير فى «ألحان البصخة المقدسة»، قبل أن تمنحها فى 2020م درجة الدكتوراه عن رسالة حول «ألحان القداس الباسيلى»، وهو ذات العام الذى منحت فيه درجة الدكتوراه للباحث سعد بطرس، مرتل كنيسة مارجرجس بخمارويه بشبرا -وهو أحد فاقدى البصر- عن رسالة حملت عنوان «بعض ألحان الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ومثيلاتها فى كل من الكنيسة الكاثوليكية واليونانية والإثيوبية». وبحسب بعض الإحصائيات، فإن هناك نحو 575 لحناً قبطياً تم تسجيلها والاحتفاظ بها، إلا أن الباحث مايكل حلمى شكَّك فى ذلك، مشيراً إلى أنه رغم تلك الجهود المبذولة فإن بعض الألحان اندثرت، وبعضها غير معلوم حتى الآن، إلا أن التنقيب فى التراث والتفتيش فى أوراقه يكشف كل يوم الجديد عنه، وهى نفس الإشكالية التى تواجه حفظ التراث القبطى الخطى المدوَّن فى الأوراق والرقوق.