قصاصة فى الشرق وأخرى بالغرب وبينهما رقوق ما زالت قابعة فوق رفوف فى الصحراء، أو مكدسة داخل المخازن، تحوى تاريخاً يحكى فصولاً لم ترو أو تكتب عن ماضى مصر والعالم، تتضمن تراثاً غنياً بكل أشكال الإرث الإنسانى، تسبب الإهمال فى ضياع أجزاء كبيرة منه، وصار مطمعاً للغزاة واللصوص الذين تكالبوا عليه ليُشيِّدوا به مكتبات الغرب، وما تبقى منه أهمل إلا القليل الذى جرت محاولات من أطراف متعددة لإنقاذه. هذا هو مصير التراث القبطى، الذى اكتشفنا فى رحلتنا أن مستودعاته وخزائنه التى حفظت فيها أوراق الحضارة والتاريخ الإنسانى، تحولت ل«مغارة لصوص» تجمع داخلها الغزاة والرحالة والطامعون الذين نهبوا من مكتبات الأديرة معظم المخطوطات فى القرون الوسطى ليشيّدوا به المكتبات العالمية الكبرى التى يعرفها العالم فى الغرب حالياً والذى بنى بعد قرون من الحروب الدينية الدموية المدمرة حضارته من لبنات مسروقة، كان النصيب الأكبر منها من التراث القبطى الذى ما زالت سرقته تتواصل حتى الآن فى غفلة أو غياب من المسئولين عن الحفاظ عليه. فى تلك الحلقة من الرحلة، فتحنا الملف المسكوت عنه، حيث فتشنا فى الكتب وراجعنا الأرشيف، لنرسم خريطة كنز التراث القبطى المنهوب الذى وُزعت دماؤه على دول العالم الكبرى، لنكتب أسماء اللصوص الأفاضل، ونروى تفاصيل السرقة الثقافية الكبرى. لصوص المخطوطات استغلوا أموالهم ومراكزهم في تبديدها والمتاجرة فيها.. والسرقات بدأت منذ القرن ال17 الميلادي وصلنا إلى مكتبة الدير الأثرى المشيد بوادى النطرون شمال مصر، التى يعكس معمارها قصراً من قصور المعرفة، وتضم بين جنباتها كتباً لشتى العلوم والمعارف والآداب، والمتجول بين أركانها يضع يده على فمه انبهاراً كمن يصغى إلى عظيم بين قومه، من حجم ما بها من وثائق ومخطوطات نادرة رصت على أرفف أحاطت مكاتب القراءة التى تتوسط باحتها، حيث كانت وما زالت الأديرة القبطية هى خزانة العلم والمعرفة، التى تناثرت فى برارى مصر، وأنارت مكتباتها الشرق بما وصلت إليه قديماً، فيما كانت الظلمة تلف الغرب وخاصة فى العصور الوسطى التى شهدت حروباً دينية دموية ومدمرة، قبل أن يفيق الغرب ليبنى حضارته من لبنات مسروقة، كان النصيب الأكبر منها من التراث القبطى. الأديرة خزانة العلم والمعرفة التي تناثرت في براري مصر.. ومكتباتها أنارت الشرق بما وصلت إليه قديماً مدير مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية: اهتمام الغرب بالسطو على التراث القبطي بدأ بعد اكتشاف أنه حلقة مهمة وخطيرة في تاريخ المسيحية ويقول الدكتور لؤى سعيد، مدير مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية، ل«الوطن»: «المخطوطات القبطية ملأت مكتبات شهيرة فى العالم مثل الفاتيكان والمكتبة الوطنية بباريس وغيرها حتى وصلت إلى مكتبات الهند، فالتراث القبطى حدث له تدمير وليس سرقة المخطوطات فقط، ففى العصور الوسطى أخذ الرحّالة والزائرون يطوفون على الأديرة والرهبان ويحصلون منهم على المخطوطات إما باستغلال الثقافة البسيطة التى كانت لرهبان الأديرة القبطية فى ذلك الوقت ويتم مقايضتهم بالحصول على أجزاء من المخطوطات التى كانت مهملة وكانت خزائنهم تحوى كميات كبيرة منها مقابل المال، وإما السرقة، وخرجت معظم المخطوطات بالطريقة الأولى، أما الثانية فقد بدأت متأخرة نوعاً ما وذلك بعد أن بدأ الرهبان يعرفون قيمة ما يمتلكون ولم يكونوا بسذاجة الماضى، فبدأت السرقات تحدث». «سعيد»: مصر لها أهمية كبيرة بالنسبة للغرب المسيحي باعتبارها ثاني أرض مقدسة بعد فلسطين ويضيف «سعيد»: «فى القرون الوسطى بدأ اهتمام الغرب بالسطو على التراث القبطى بعد أن اكتشفوا أن هذا التراث حلقة مهمة وخطيرة فى تاريخ المسيحية، بمعنى أن مصر بالنسبة للغرب المسيحى لها أهمية كبيرة باعتبارها ثانى أرض مقدسة بعد فلسطين والعائلة المقدسة زارت مصر، فاكتشفوا أن هناك تراثاً مصرياً قبطياً عريقاً وثرياً لأن اللغة القبطية كانت مجهولة بالنسبة للغرب حتى القرن ال16 الميلادى، حتى وضع الألمانى أثناسيوس كرشر قواعد اللغة القبطية باللاتينى فتمت معرفة أن هناك تراثاً ثرياً جداً وعظات وتنظيرات عقائدية، حيث كانت الكنيسة المصرية هى المنافس التاريخى لكنيسة روما منذ القرن الخامس الميلادى عقب مجمع خلقيدونية، وزادت أهمية التراث القبطى للكنيسة المصرية أكثر بعد دخول الإسلام، لأنه حينما دخل الإسلام مصر بدأ الأقباط يترجمون جزءاً كبيراً من تراثهم للغة العربية، وبدأوا يتعرضون لجدل لاهوتى عقائدى نظراً لتوجه نقد للمسيحية من قبل المسلمين حول الثالوث والتجسد، وبدأ الأقباط يؤلفون كتباً للرد على هذا التفنيد الذى يوجه لهم بطريقة راقية ليس مثل مناظرات تلك الأيام وليس بهدف التقليل والتحقير ولكن استيعاب الآخر وقبوله، والجدل اللاهوتى هذا بين الإسلام والمسيحية لم يكن موجوداً فى الغرب، وحينما بدأ هذا الجدل يظهر فى الغرب مع دخول الإسلام أوروبا لجأ الغرب للتراث القبطى للرد وذلك لأنهم لم يكن لديهم القدرة على الجدل، وبدأ من هنا الاهتمام بالمخطوطات القبطية واقتنائها». وتابع «سعيد»: «بعد ذلك بدأ الولع بعلم المصريات وخاصة اللغة القبطية التى تم اكتشاف أنها حلقة وصل ما بين الحضارة المصرية القديمة والمصريين المعاصرين، وساهم فى ضياع تلك المخطوطات أن المصريين فى العصور الوسطى لم يكونوا مكترثين بقيمة المخطوطات ولم تتم دراسة تلك المخطوطات بعد ضعف استخدام اللغة القبطية، حيث كان الأقباط حافظين للغة فى الصلوات لترديدها شفهياً ولم يكونوا يعرفون اللغة قراءة وكتابة». أستاذ لغة: ندفع أمولاً للغرب مقابل الاطلاع على مخطوطات هي ملكنا القمص متّى ومؤرخ بريطاني كشفا السرقات ويقول الدكتور إبراهيم ساويرس، أستاذ اللغة القبطية بكلية الآثار جامعة سوهاج، والحاصل على الدكتوراه فى الدراسات القبطية من جامعة ليدن بهولندا، ل«الوطن»: «يعتبر الغرب أن من جمع مقتنيات كثيرة للمكتبة بطل قومى، وأنه مغامر أنفق أمواله من أجل المتحف، ولكن هو بالنسبة لنا سارق، وهؤلاء هم سبب أن يتفرق دماء التراث القبطى على مكتبات العالم، بل الأدهى أن تلك المخطوطات التى هى ملكنا وتراثنا، ندفع مقابلاً للغرب من أجل الاطلاع عليها، وسبق أن كشف كل من القمص متّى المسكين أشهر رهبان الكنيسة فى القرن العشرين فى كتابه (الرهبنة القبطية)، والمؤرخ البريطانى أليستر هاميلتون فى كتابه (الأقباط والغرب) عن تلك السرقات وبالأسماء كيف خرج التراث القبطى إلى أوروبا». «صبحي»: خروج المخطوطات من مصر تم على مراحل وهناك سفن غرقت في المتوسط تحمل التراث القبطي ويقول القس باسيليوس صبحى، راعى كنيسة السيدة العذراء بالزيتون، والباحث فى التاريخ والتراث القبطى، ل«الوطن»: «خروج المخطوطات من مصر تم على مراحل وتم على أيدى أسماء كثيرة، وهناك عشرات الدراسات حول المكتبات الغربية المليئة بالدراسات والنصوص القبطية الموضحة فيه الكتالوجات الموضوعة فيها، وموضحة فيه أسماء الرحالة ومن قام بنقلها، لقد نقلت المخطوطات والتراث القبطى من مصر عبر سفن غرق بعضها فى البحر المتوسط، وهناك قصص كثيرة وأسماء كبيرة، من القرن السابع عشر حتى التاسع عشر الميلادى، تورطت فى تلك العملية»، مضيفاً: «الأجانب حينما جاءوا مصر نقلوا كمية مخطوطات كثيرة كانت تنقل بالمراكب، وأخذوا الأشياء الثمينة والفريدة معهم وتركوا كتب الصلوات بالكنائس التى توجد منها نسخ كثيرة». «اعتبرت الكتب والمخطوطات رصيداً من العلم والثقافة يضاهى الجواهر، وكان طبيعياً أن تُحفظ وتعرض كما تحفظ وتعرض المقتنيات الثمينة، ولكن هذا الإرث الإنسانى المكتوب، الذى تصفه اليونيسكو بذاكرة العالم، تعرض لسرقات حتى إنه فى أوقات كانت المكتبة تشبه المغارة التى اجتمع فيها اللصوص على سلبها»، قال ذلك دليلنا الراهب القبطى صاحب الاسم المستعار «الأب كيرلس» الذى يصحبنا فى الرحلة، وهو يمد يده يعطينا كتاب «الرهبنة القبطية» ل«القمص متى المسكين»، الذى كشف فيه بالأسماء من وصفهم ب«لصوص المخطوطات الأفاضل» الذين سرقوا مكتبة دير أبومقار بوادى النطرون، التى تعود للقرن الرابع الميلادى، مستغلين أموالهم ومراكزهم الأدبية والسياسية فى تبديد المخطوطات بالمتاجرة فيها والتربح من ورائها حتى ما خُبئ منها داخل ما عرف ب«الغرف المسحورة» داخل الأديرة، أُخرج منها وسُرق. فيقول «المسكين» فى كتابه: «بعد انعقاد لسان الرهبان عن النطق باللغة القبطية لم تعد المكتبة بالنسبة لهم مصدر نور وعرفان، فقد فقدت المكتبة طابعها الشعبى بالنسبة للرهبان وأصبحت وقفاً على العلماء والباحثين والمنقبين، وتشتت المخطوطات القبطية وتم تبديدها على مكتبات العالم على يد من يطلق عليهم علماء، وكان من جراء هذا النهب والسلب أن تمزقت المخطوطة الواحدة فصار نصفها فى الفاتيكان والآخر فى باريس، ومَلزمة فى مانشستر وملزمة فى برلين». وحول ما تعرضت له المخطوطات القبطية من ضياع، تحدث «المسكين» عما حاق بمكتبة دير أبومقار، حيث يقول: «انعدام اللغتين اليونانية والقبطية من على ألسنة الرهبان جعل هذه المخطوطات الثمينة بلا منفعة، هذا إلى جانب غارات البربر المتكررة التى جعلت الرهبان إما يحملون المخطوطات الثمينة خارج الدير فلا تعود إليه مرة أخرى، وإما إخفاء المخطوطات فى غرف مسحورة مظلمة رطبة أساءت إلى أنواع المخطوطات، كما أن وباء الطاعون الذى حل بالدير أنهى على الأعداد الكبيرة للرهبان حتى صاروا أربعة رهبان أو أقل، وبذلك تُركت المكتبة بلا أى عناية تحت رحمة الرطوبة وديدان الكتب». ويضيف «المسكين»: «هذا إلى جانب لصوص المخطوطات الأفاضل الذين استغلوا أموالهم ومراكزهم الأدبية والسياسية فى تبديد المخطوطات، ومع احترامنا لأسمائهم ومراكزهم فمنهم الكهنة ومنهم أمين مكتبة الفاتيكان ومنهم الضباط والعلماء والسيدات، ومعظمهم كان يقدم أثماناً لهذه المخطوطات ولكن الحقيقة التى لا مفر منها أنهم كانوا لصوصاً بمعنى الكلمة، وقد تاجروا فيها وربحوا جميعاً حتى على المستوى المادى، وقد ابتدأ عصر العبث بالمخطوطات وسرقتها منذ القرن ال17 الميلادى». ونشر «المسكين» قائمة بمن وصفهم ب«اللصوص الأفاضل» تارة، وتارة أخرى ب«المغامرين الأثرياء» الذين نهبوا المكتبة كلها حتى لم يبق فيها شىء، وهم: «أجاثا أنج دى فندوم الكبوشى»، الذى كان يموله شخص يدعى «بيرسيك» كما يظهر فى خطاب مؤرَّخ فى 18 مارس 1634م يبشره فيه بالحصول على صفقة من مخطوطات دير أبومقار التى يوجد فى مكتبتها فى ذلك الوقت 8 آلاف مخطوطة. و«فانسليب» الذى احتال على الدير وحصل على مجموعة كبيرة، و«روبرت هنتنجتون (1637-1701م)»، وهو رجل كنيسة إنجليزى ومستشرق وجامع مخطوطات، واللبنانى «يوسف سمعان السمعانى (1687-1768م)»، كان أسقفاً وعلامة مارونياً عُرف بنشاطه بجمع وترجمة المخطوطات المسيحية السريانية فى الشرق الأوسط، كما كان أول مشرف على مكتبة الفاتيكان، واستحوذ على مجموعة كبيرة من المخطوطات القبطية عام 1715م وضمها للفاتيكان، والذى يوصف بأنه أكبر الذين سطوا على مكتبة دير أبومقار فى العصر الحديث كله، وأخطر العوامل التى قوّضت صرح المكتبة وكتب عن نفسه «وقد حصلنا من رهبان دير أنبا مقار على مخطوطات هى على أعلى درجة من الأهمية والقيمة مكتوبة باللغة القبطية، ولم نبق عندهم على أى شىء آخر يمكن أن يحصل عليه أى أحد آخر مهما كان طماعاً». مؤرخ فرنسي: الفاتيكان كان أكثر حرصاً على حيازة التراث المكتوب للطوائف المسيحية الشرقية وكان السارقون يفاخرون بما يغترفونه من الكنز المباح فكتب الباحث «إيفلين هوايت» الذى كتب يزايد على «السمعانى»: «ولكن جاء من يلتقط من وراء هذا السمعانى واستطاع أيضاً أن يخرج بغنيمة» متكلماً عن نفسه وآخرين، و«الكونت الفرنسى أنطوان فرانسوا أندريوسى (1761-1828م)» الذى كان قائداً فى حملة نابليون بونابرت على مصر واستطاع عام 1799م الحصول على العديد من المخطوطات من دير أبومقار. و«برناردينو دروفيتى ( 1776-1852م)»، وهو رحالة ودبلوماسى إيطالى ومستكشف وأثرى كان يعتبر بشكل ما قنصل نابليون فى مصر، استولى على العديد من مقتنيات مصر منها المخطوطات القبطية وما حصل عليه عام 1818م شكَّل مقتينات متحف تورين فى تورينو. و«روبرت كيرزون»، وهو سائح حصل بطريقة غير معروفة على مجموعة من المخطوطات القبطية عام 1837م، ورجل الدين بكنيسة إنجلترا والعالم القبطى «هنرى تاتام (1788-1868م)»، الذى حمل من دير أبومقار وحده مجموعة أوراق مفردة أو ملازم يزيد عددها على المائة واستقرت فى مكتبة رايلاند بمانشستر. والألمانى «قسطنطين تيشندورف (1815-1874م)»، والذى قيل إنه اكتشف عام 1844م فى دير سانت كاترين عند سفح جبل سيناء أقدم وأكمل كتاب مقدس فى العالم، وحمل عدداً من مخطوطات وأوراق من الرق من دير أبومقار واستقرت الآن فى مكتبات ليبزج وكامبردج. و«فورتيون آم»، الذى يقول عنه «المسكين»: «إن كل اللصوص السابقين دخلوا المكتبة من أبوابها إلا هذا فإنه قام عام 1873م بالتسلل ليلاً حتى وصل إلى غرفة المكتبة وقام بسرقته الثمينة التى ربما قذفها من فوق السور ويظن (إفلين هوايت) أنها مخطوطات عربية مهمة استقرت الآن فى المكتبة الأهلية بباريس». وأخيراً عالم الآثار الإنجليزى «هيو جى إيفلين هوايت (1874-1924م)»، ودخل مكتبة أبومقار عام 1921م وأخذ من أوراقها التى ظنها من سبقه أنها من المهملات، وهى التى كانت داخل الغرف المسحورة للمكتبة التى كانت بالحصن وكشف مواضيع كانت قد عدمت مصادرها باللغة القبطية مثل «إنجيل الرؤيا، رؤية أنبا بنيامين، المناظرة مع يوحنا الرابع، أبوكريفا آدم، وغيرها» ومعظم هذه الأجزاء غير الكاملة وجد أنها تكمل مخطوطات ناقصة فى المواضيع الأخرى من المكتبات التى استقرت فيها المخطوطات. وبحسب المؤرخ الفرنسى فريدريك هيتزل، فإن وجود المخطوطات الشرقية فى المكتبة الوطنية بباريس، ليس أمراً يعود إلى محض المصادفة، فحينما عقد بابا روما «مُجَمَّع فلورنسا» الذى انتهى عام 1445م، لبحث وحدة المسيحيين حول العالم بهدف التصدى لصعود الدولة العثمانية، قدّمت وفود الشرق مخطوطات شرقية ثمينة للبابا إيجين الرابع، بابا الكنيسة الكاثوليكية (13831447م)، وقد أظهر أقباط مصر كرماً بالغاً، فأهدوا مجموعة مهمة من المخطوطات العربية، بحيث أصبحت مكتبة الفاتيكان، عند إنشائها سنة 1475م، تحتوى على واحد من أغنى مخازن المخطوطات العربية فى أوروبا المسيحية. وبالرجوع للمصادر الكنسية، فإن هذا المجمع عقد فى عهد البابا يوأنس الحادى عشر، البطريرك ال89 فى تعداد بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، الذى أرسل مندوباً عنه لحضور «مُجَمَّع فلورنسا»، هو «يوحنا، رئيس دير الأنبا أنطونيوس». ويضيف «هيزل»: «بفعل تأثير عصر النهضة، فإن مطاردة المخطوطات الشرقية بدأت فى إيطاليا أبكر منها فى فرنسا، حيث كانت الكتب تعتبر فى ذلك العصر موضوعات ذات قيمة كبيرة، وأنشأ الميسورون لأنفسهم مكتبات عظيمة. وفى أواسط القرن ال15 أرسل البابا نيقولا الخامس بابا الفاتيكان (1397-1455م) مبعوثين للبحث عن مخطوطات الأعمال المهمة، وكان الفاتيكان -لأسباب دينية بالخصوص- حريصاً أكثر على حيازة التراث المكتوب للطوائف المسيحية الشرقية. وفى بداية القرن السابع عشر، بدأت المكتبات وخزانات جامعى التحف تغتنى بالمخطوطات الشرقية. وأطلقت فرنسا العديد من البعثات التى سميت بالبعثات (الأركيولوجية)، والتى أوكلت إليها مهمة جمع المخطوطات والعملات والتحف بطريقة علمية. وكان الفاعلون الرئيسيون فى هذه العملية هم قناصل سلالم المشرق فى المقام الأول، وهؤلاء كانوا بدورهم يعمدون إلى استخدام مبعوثين لشراء تلك المخطوطات». وتابع «هيزل»: «فى القرنين 17 و18، كان البحث فى المخطوطات يجرى عن التراث العلمى الضائع للعصر القديم، الذى تم نقله من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية، وكذلك عن النصوص المسيحية بغرض إذكاء نار المجادلات الدينية. وفى القرن 19 انصب الاهتمام أكثر على الجانب الجمالى للمخطوطات، والدليل القاطع على ذلك هو شراء مجموعات مرموقة، من قبيل شراء مجموعة مقتنيات الموظف القنصلى لفرنسا بمصر أصلان دو شورفى (1772-1822م) والتى تبلغ 1500 مخطوطة وذلك سنة 1833م»، مشيراً إلى أن المكتبة الوطنية بباريس ضمت إليها مكتبات الأديرة وخاصة تلك التى جلبتها الحملة الفرنسية من مصر. ومن أشهر «الغزاة» الذين استولوا على المخطوطات من الأديرة، كان السلطان العثمانى سليم الأول (1470-1520م)، فعند دخوله مصر عام 1517م، استولى على مخطوطة (العهدة النبوية)، التى كانت موضوعة فى دير «سانت كاترين» بجبل سيناء، وهى مخطوطة تعود للقرن الثانى الميلادى عبارة عن كتاب العهد الذى كتب للدير فى عهد الرسول محمد وهو العهد الذى يؤمّن فيه الرسول أهل الكتاب على أموالهم وأنفسهم وممتلكاتهم، وتحوى بصمة الرسول، وشهد عليها العشرة المبشرون بالجنة، إلا أن «سليم الأول» حمل المخطوطة إلى الأستانة، وهى معروضة بأحد المتاحف فى تركيا، وترك لرهبان الدير صورة معتمدة من هذا العهد مع ترجمتها للتركية. ويقول الراهب القمص بيجول السريانى، المسئول السابق عن مكتبة المخطوطات بدير السريان بوادى النطرون، إن مئات المخطوطات التى كانت داخل مكتبة الدير الأثرى، انتقلت بطريقة أو بأخرى خلال القرنين ال18و19 إلى مكتبات الغرب، مشيراً إلى أن الدير فقدَ فقط 640 مجلداً باللغة السريانية، معظمها مقسم بين المكتبة البريطانية ومكتبة الفاتيكان، وأن أول اللصوص الذين نهبوا مكتبة الدير كان اللبنانى «ألياس السمعانى» عام 1707م، وكتب فى ملاحظاته أن الرهبان الأقباط فرطوا بسهولة فى المخطوطات السريانية، حتى إنه عاد مرة أخرى للدير واستولى خلالها على مخطوطات قبطية وعربية. وأضاف «بيجول»، ل«الوطن»: «قصة السرقات بدأت فى منتصف القرن ال18 الميلادى، حينما نشأت فى أوروبا جمعيات يهودية بهدف دراسة وصياغة المفاهيم فى الكتاب المقدس، إلا أنه طرأ عليها بعد ذلك العناصر السياسية والاستعمارية، حيث ظهرت رغبة الكنيسة البابوية بأوروبا فى السيطرة على العالم المسيحى، ورغبة الجمعيات اليهودية فى دراسة التطور فى النصوص والفكر من اليهودية للمسيحية، وظهور الإلحاد المعاصر الذى حاول تفنيد النصوص الدينية، وتلك الأغراض المتنوعة التقت جميعاً فى أن أصول الكتاب المقدس وكتاباته وتفسيراته ودراساته موجودة فى إقليم مصر والشام، لتبدأ تلك الجمعيات فى تنظيم رحلات ممنهجة لشراء أو الاستيلاء على المخطوطات مستغلين التدهور السياسى والاجتماعى والاقتصادى للدولة العثمانية التى كانت تحكم مصر والشام، لينقلوا تلك المخطوطات لأوروبا لدراستها، حيث كان الشعب يعانى الفقر وبدأت تلك الجمعيات الدخول للأديرة والكنائس والمزارات لتأخذ المخطوطات مقابل مقايضة بالمال وغيره». ولا تمتلك أى مؤسسة فى مصر كنسية أو رسمية، حصراً دقيقاً للمخطوطات المنهوبة من خزائنها، إلا أنه بحسب الدكتور إبراهيم ساويرس، فإن خريطة توزيع المخطوطات القبطية المنهوبة حول العالم ضمت: «مجموعة لندن، وتضم مخطوطات من أديرة سوهاج والفيوم ووادى النطرون، وساهم فى خروجها من مصر الكاردينال الإيطالى ستيفانو بورجيا (1731-1804م) الذى حصل عليها من تجار القاهرة أو جهلاء الصعيد، كما تضم مخطوطات خرجت على يد تاجر الآثار موريس نحمان (1868-1948م) يهودى الديانة، مصرى المولد، يونانى الأصل، الذى عمل فى منطقة وسط البلد بالقاهرة ابتداءً من عام 1890م، وبصماته منتشرة فى جميع مبيعات الآثار المصرية لأهم المتاحف فى أوروبا والولايات المتحدة، حيث باع قطعاً قبطية وإسلامية عالية الجودة، للمتاحف التى لم تكن قد أنشأت بعد أقساماً مستقلة مخصصة لهذه الحقب، فساعد عمله فى خلق تصورات عامة عن نشأة هذه الأقسام». و«مجموعة مخطوطات باريس» خرجت عن طريق التجار أو تم اقتناؤها من مكتبات أوروبية أخرى، فضلاً عن «مجموعة مخطوطات الفاتيكان» وساهم فى جمعها الكاردينال الإيطالى بورجيا، وأمين المكتبة «السمعانى» إلى جانب آخرين منهم «بيترو دلا فالا، رافائيل الطوخى، شياسكا». و«مخطوطات نيويورك» التى جمعها رجل الأعمال الأمريكى جون بيربونت مورجان (1837-1913م)، والعالم الفرنسى إميل شاسيناه (1868-1948م) الذى وصفه «ساويرس» بأنه «لص ألف كتالوج عن المخطوطات»، و«شاسيناه» تولى منصب مدير المعهد الفرنسى للآثار الشرقيةبالقاهرة فى الفترة من (1899-1912م)، وشارك فى ترميم معبد إدفو، واكتشاف مقبرة ابن الملك كيبوس بمنطقة أبورواش، وشارك فى أعمال الحفر فى وادى الملوك ودير باويط، واكتشف برديات معظمها قبطية وأصبح عضواً فى المجمع العلمى المصرى عام 1948م، وحصل هذا العالم على المخطوطات القبطية التى عثر عليها فلاحون فى منطقة جرجا بصعيد مصر، كما حصل على مخطوطات دير الملاك ميخائيل الحامولى بالفيوم من الفلاحين المكتشفين لها وأقنعهم بضرورة إرسال هذه المخطوطات إلى باريس لدراستها والتعرف على قيمتها وثمنها. كما شارك فى جمع مخطوطات نيويورك أيضاً كل من «تيودور بيترسن، وبنتلى لايتون، وليو دى باوت».