الألحان القبطية هى ذلك التراث التسبيحى الذى حفظته الكنيسة القبطية على مدى ألفى عام، وكانت وسائل الحفظ له هى الصلوات والأصوام والمطانيات، الدموع والعرق والدم عبر القرون العديدة. واستطاعت الكنيسة أن تحفظ هذه الألحان داخل صحنها المقدس ألفى عام، رغم عدم تدوينها موسيقيا ورغم عدم توافر أجهزة التسجيل التى انتشرت فقط فى هذا القرن، فاعتمدت الكنيسة على التقليد الشفاهى فى حفظ هذه الألحان، وأوجدت من أجل هذا المرتلين وهم عادة ما يكونون من مكفوفى البصر لقدرة ذاكرتهم على اختزان هذا القدر الكبير من الألحان،التى يصل عددها إلى حوالى 575 لحنًا، وتتراوح أزمانها، ما بين نصف دقيقة إلى عشر دقائق. ويعتبر التقليد الشفاهى لحفظ هذا الكم الكبير من الألحان القبطية معجزة، ساعد على وجودها إصرار الكنيسة القبطية التقليدية على عدم التفريط فى كل ما تسلمته من الآباء الرسل دون أدنى حيود عنه، بل يذهب البعض إلى أن بقاء تراث الألحان القبطية طيلة هذه القرون، يفوق أو يضاهى معجزة بقاء آثارنا الفرعونية.
على أية حال، يخبرنا ديمتريوس الفالرونى أحد أمناء مكتبة الإسكندرية عام (297 ق.م) أن كهنة مصر كانوا يسبحون آلهتهم من خلال السبعة الحروف المتحركة ويأخذون فى الغناء بها الواحد تلو الآخر وكان ترديدهم بهذه الحروف المتحركة ينتج أصواتاً عذبة، وقال العالم الرياضى «نيكوميخوس» الذى عاش فى القرن الأول الميلادى أن أصوات كل واحد من السبعة الكواكب التى كانت معروفة فى ذلك الوقت ينتج صوتاً لحرف من الحروف السبعة، وهو نفس الأسلوب المتبع الآن فى الكنيسة القبطية، إذ يرتل الكثير من ألحانها على حرف واحد، ومثال ذلك لحن هلليلويا الهوس الكيهكى، المعروف بآللى القربان يرتل على حرف الألفا.
واعتقد بعض الباحثين فى مجال الموسيقى القبطية، أن الألحان الكنيسة قد اكتملت فى القرن الخامس الميلادى، بعد أن انتشرت الديانة المسيحية بين المصريين جميعًا، وبدأت تتكون معها ملامح الصلوات والطقوس، وأخذت فى التطور التدريجى حتى استقرت، وما يؤكد ذلك اكتشاف أقدم نوتة موسيقية قبطية فى ذات الفترة.
وأرجع العالم «ولتر كرم» مخطوطة قبطية إلى ما بين القرنين العاشر والحادى عشر الميلادى، تحتوى على نوتة موسيقية تحتوى على كلمات وعلامات موسيقية وخطوطاً عمودية أحادية وثنانية وثلاثية ورباعية وخماسية، وهى على غرار النوتة اليونانية النيوماتك وهذه الشروط تعنى الهزات وتظهر مفردة أو أسفل النوتة أو أعلاها وبها علامة صليب مع حرف إس وهى تشبه العلامة اللاتينية أوريسكوس وتعنى الإطالة.
ومع مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر(1798 1801م) حاول أحد أعضائها ويدعى «فيلوتو» تدوين أول نوتة للألحان القبطية.
على أية حال، يرجع الفضل إلى البابا كيرلس الرابع (1854 – 1861 م) والذى بفضل مجهوداته وتشجيعه استعادت الألحان القبطية صحوتها بعد فترة الركود، واستعان البابا بالمعلم «تكلا» الذى جاب البلاد طولاً وعرضًا، وما من لحن وجده سليمًا إلا واعتمده، حتى جمع الألحان كلها على أحسن صورة والتى يشملها طقس الكنيسة، فصار معلم الكتّاب الملحق بالكنيسة البطريركية، الذى كان يتعلم فيه أولاد الأعيان، إلى أن أنشأ البابا «كيرلس الرابع» مدرسة الأقباط الكبرى فعين المعلم تكلا معلمًا للألحان بها، وبعد ذلك رسمه قسًّا على الكاتدرائية لبالغ اهتمامه بطقس الكنيسة.
وتعاون المعلم تكلا وعريان بك مفتاح (أستاذ اللغة القبطية فى ذلك العصر)، معًا لوضع كتاب يضم الألحان الكنيسية لخدمة الشماس،لأول مرة بكتاب خدمة الشماس،أضاف المعلم تكلا إلى الألحان القبطية بضعة ألحان يونانية قديمة، هى اثنا عشر لحنًا، لم يبق منها حتى اليوم سوى القليل منه: لحن يقال فى عيد الميلاد وهو لحن «ايبارثينوس... اليوم البتول تلد الفائق الجوهر»، واثنان يقالان فى دورة عيد القيامة والخماسين المقدسة وهما لحن «تون سينا نارخون لوغون... نسبح نحن المؤمنين» ولحن «توليثوس فراجيس..... لما ختم الحجر من اليهود».
وقد دبر الله سبعة عباقرة، أن يدرسوا على يد المعلم تكلا، فاستلموا منه الألحان كلها فكانت نهضة للحن الكنسي، ومن أشهرهم المعلم مرقس والمعلم أرمانيوس.
وواصل المعلم ميخائيل جرجس البتانونى، الذى ولد فى 14 سبتمبر سنة 1873 م، بالقاهرة وكان فى صباه يبصر قليلاً وبعد ثلاث سنين أصيب بالرمد فسلمه والده إلى الكنيسة ليتعلم الألحان ولم يكن يبخل عليه بالمال فى سبيل تحقيق ذلك، فتتلمذ على يد المرتلين مرقس وأرمانيوس تلميذى المعلم تكلا، وما إن بلغ التاسعة عشرة من عمره حتى كان قد استوعب الألحان وملك زمامها.
ولذلك رسمه البابا كيرلس الخامس البطريرك (112)(1874-1927) شماساً فى سنة 1886م، ارتقى إلى منصب كبير المرتلين فى الكاتدرائية المرقسية فى سن مبكرة، بعد أن التحق بالإكليريكية عام 1891 م، وفى 2 نوفمبر عام 1893م عين مدرساً للألحان بالإكليريكية وكان معروفاً بدقته فى الآداء وجمال صوته وحفاظه على أصول هذه الألحان.
وبين عشية وضحاها، ذاع صيته واتجه بعد ذلك لتأسيس مدرسة للعرفاء العميان بالزيتون عام 1901 م. وقام بإعداد كتب للألحان القبطية على طريقة «بريل» لمساعدة المكفوفين، ومنح لقب البكوية لمجهوداته الكبيرة فى نقل القداس القبطى إلى اللغة العربية.
ومع بداية القرن العشرين اهتم راغب مفتاح، بالألحان الكنسية، لجمعها بطريقة علمية حديثة، فعمل على ضم المعلم ميخائيل إليه فعملا معاً لمدة أربعين سنة، بدأت فى شتاء عام 1928م، وفى حضور الموسيقى العالمي «نيولاند سميث»، وصاحبه تسجيل العديد من تراث الألحان القبطية، حتى رحيله فى 18 أبريل سنة 1957 م، وبلغ عدد ما تم تسجيله من ألحان فى النوتة الموسيقية ما يقرب من ستة عشر مجلداً، وهى التى حولها العلامة راغب مفتاح إلى تسجيلات صوتية، وبعد رحيله يونية 2001م،حاولت «لورنس مفتاح» بالتعاون مع مكتبة الكونجرس تحويلها إلى أسطوانات، وقام بتسليمها إلى يد قداسة البابا «شنودة الثالث» البطريرك (117) المتنيح فى 17 مارس 2012م.
ومن الطرق المستخدمة فى الألحان القبطية، الطريقة الفرايحي: وتستخدم فى الأعياد الكبرى الخاصة بالسيد المسيح، كذلك فى الخماسين المقدسة،الطريقة الحزاينى: وتستعمل فى الأسبوع الذى يسبق عيد القيامة، ويعرف حسب الاصطلاح الكنسي «أسبوع الآلام» أو «البصخة المقدسة»، اللحن الصيامي: ويستخدم فى ألحان الصوم الكبير، وهو الصوم الذى يسبق عيد القيامة، ويعتبر من أقدس الأصوام وأهمها عند الأقباط. اللحن الشعانينى: ويستخدم فى يوم أحد الشعانين أو «أحد السعف» وكلمة شعانين مشتقة من كلمة «هوشعنا» بالعبرانية ومعناها «خلصنا»، وهو الهتاف الذى صرخ به الشعب عند دخول السيد المسيح إلى أورشليم، ويستخدم أيضا فى عيدى الصليب. اللحن السنوى: وهو اللحن المستخدم فى بقية أيام السنة خارج هذه المناسبات الأربع.
أما طرق أداء الألحان القبطية: التسبيح فى خورسين: وهو ما يعرف بالغناء التبادلى أو التقابلى، أو الأنتيفونا، حيث تنقسم الكنيسة إلى خورسين، خورس قبلى وخورس بحرى، ثم يقوم الخورسان بتلاوة كل قطعة من التسبيحة بالتبادل.التسبيح بطريقة المرد: حيث يقوم المرتل بأداء اللحن الصولو، بينما يرد عليه بقية أفراد الخوؤس «أو الشعب» بالمرد الثابت مثل «آمين» أو «الليليويا».. إلخ.التسبيح الجماعي: حيث يقوم الشعب كله بالتسبيح والترنيم، بينما يكون دور المرتل الرئيسى هو ضبط النغمات بالناقوس أو الدف. التسبيح المنفرد: وفيه يقوم المرتل بأداء الألحان كاملة منفرداً. ومن أشهر الألحان القبطية المستخدمة حاليًّا نذكر اللحن السنجارى والأتريبى والشامى.