قبل أيام قليلة شاهدت المناظرة بين عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح وهما من أبرز المرشحين الثلاثة عشر في انتخابات الرئاسة، استغرق ذلك النقاش المذهل أكثر من أربع ساعات وشاهده ملايين المصريين والعرب، وعلى عكس تصور منتشر حول العالم عن أن مصر تغرق في حالة من الفوضى والتعصب، جسد ذلك النقاش بأشكال مختلفة الأمل في مصر الجديدة بعد ثورة العام الماضي. فمنذ عصر رمسيس الثاني -الفرعون القوي الذي حكم مصر قبل آلاف السنين- وحتى انتهاء حكم حسني مبارك العام الماضي لم يشهد المصريون نقاشا حول الشخص الذي ينبغي أن يتولى بشكل ديمقراطي أعلى منصب في البلاد، فثقافتنا الجديدة في النقاش، إلى جانب انتخاب البرلمان في ديسمبر الماضي، هي معالم بارزة في تاريخ أمتنا، وتمهد طريقا جديدا -لكنه صخري- نحو الديمقراطية. وعلى خلاف ما حدث في سوريا أو ليبيا، اتخذ الجيش المصري مسار حماية الثورة في مهدها، وأشرف على إجراء انتخابات شفافة لم يسبق لها مثيل. لكن التحديات التي تواجه البلاد مازالت هائلة بطبيعة الحال. من بين المشاكل الأكثر خطورة: الأزمة الاقتصادية وحالة عدم اليقين السياسي وتدهور الأمن - وهي ظاهرة جديدة على المجتمع المصري، وقد تفاقمت هذه المشاكل على مدى الشهور الخمسة عشر الماضية، حيث تعثرت الأطراف الثلاثة الرئيسية التي شاركت في الثورة بطريقة أو بأخرى: المجلس الأعلى للقوات المسلحة المسئول عن الفترة الانتقالية، والقوى الليبرالية والإسلامية والشباب الذي قام بالانتفاضة، حتى أن بعض الناس المتعطشين للتحول من الجمود في عصر مبارك إلى مجتمع ديمقراطي أصيبوا باليأس وانتابهم الحنين إلى الاستقرار القديم. صحيح أن هناك مظاهر للفوضى - مثل الصراع بين مختلف الأحزاب السياسية والاشتباكات المتقطعة بين المجلس العسكري والبرلمان والحكومة - لكنها شكل من أشكال "الفوضى الخلاقة"، على حد تعبير كوندوليزا رايس، وهي نتيجة للتغييرات الثورية التي ستؤدي في النهاية إلى ديمقراطية مستقرة. والانتخابات الفرنسية الأخيرة درس لنا في انتقال سلمي وحضاري للسلطة، وإذا عدنا للتاريخ قليلا سنجد أن الثورة الفرنسية قبل نحو قرنين من الزمان قد اكتملت - عبر حركة تحرر مختلفة عن حالتنا- من خلال إراقة الدماء على نطاق واسع وصراعات سياسية سيئة دامت سنوات عديدة، وما يبعث على الأمل أن المصريين يسيرون قدما نحو الديمقراطية مع قدر أقل نسبيا من إراقة الدماء، وتشير كل الدلائل إلى أن الثورة المضادة لا يمكنها النجاح ولن نعود مرة أخرى إلى نظام حكم شمولي. ربما يكون أكثر عوامل الاطمئنان في ذلك كله هو ثقة المصريين في مستقبلهم، ولقد أخبرني محافظ البنك المركزي المصري فاروق العقدة مؤخرا أن إيرادات العملة الصعبة القادمة من المصريين العاملين بالخارج سجلت أعلى معدل لها، ويمكن قراءة الإضرابات الكثيرة من أجل تحسين التعليم وتحسين الرعاية الصحية وزيادة الرواتب كتعبير عن طموحات المصريين في المستقبل. ازدياد أحداث العنف بين بعض المسلمين والمسيحيين أمر يثير القلق، لكن وسائل الإعلام تبالغ في سببها وحجمها، فتاريخ المسيحية في مصر جزء من نسيج مصر الاجتماعي، ومصر ليس بها "جيتو" تعيش فيه أقلية سكانية وليس فيها تقسيم بين الطلاب في المدارس، لكن لديها بالفعل بعض المشاكل القابلة للحل بما في ذلك قضايا المجتمع المدني والتمثيل النيابي في الحكم. لقد شهدت في أيام طفولتي الانسجام بين المسلمين والمسيحيين، واحتفلنا معا بعيد الفطر وعيد الفصح وعيد الميلاد، وكنا نعيش معا في عمارة واحدة ونذهب إلى نفس المدرسة، وقد اعتاد الراحل البابا شنودة الثالث القول: "نحن لا نعيش في مصر، لكن مصر هي التي تعيش فينا"، وقد وقع فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب على وثيقة دستورية جديدة تطالب بالوحدة الوطنية وحقوق الإنسان لجميع المصريين. في فترة ما بعد الثورة هناك عناصر سيئة، بعضها ينتمي للنظام السابق، تسعى لتأجيج العنف بين المسلمين والمسيحيين لزعزعة استقرار الديمقراطية الوليدة، والحقيقة أن تلك الأحداث لم تترك آثارا عميقة، وهو ما يبعث على الأمل مرة أخرى، وبطبيعة الحال يجري الآن حوار حول دور الدين في السياسة، والواقع أن هذا النقاش هو تعبير عن التغيير الذي حدث. الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح كان عضوا في جماعة الاخوان المسلمين التي تأسست عام 1928 وعانى من الاضطهاد السياسي، ويعتبر نفسه إسلاميا ليبراليا. وعمر موسى من ناحية أخرى، وهو وزير الخارجية والأمين العام لجامعة الدول العربية في عهد مبارك، يؤكد على خبرته ويصور خصومه كمتطرفين دينيين. النقاش المفتوح بين التوجهات العلمانية والدينية في السياسة لم يكن واردا على مدى السنوات الستين الماضية، وهذا الانفتاح الجديد يعني أن الجسد السياسي المصري في مرحلة النضج.. المواطنون يتحملون المسئولية عن مصيرهم بالإصرار على الرؤى المتنوعة والأيديولوجيات المتنافسة، وفي النهاية يعرف المصريون للمرة الأولى أن بإمكانهم اختيار مستقبلهم، ولن يمليه أو يفرضه عليهم أي شخص. من خلال وجودي في مصر مؤخرا أثق في أن المجلس العسكري سيسلم السلطة إلى رئيس منتخب، لكنني أعتقد أن المجلس يريد "خروجا محترما"، ويريد بعض الضمانات فيما يتعلق بوضع الجيش في الدستور الجديد. ورسالتي للشعب المصري، وخصوصا السياسيين، بسيطة للغاية: من أجل مصر توحدوا لاستكمال الانتقال من الديكتاتورية الى الديمقراطية الناشئة بالتركيز على صياغة الدستور الجديد، وبغض النظر عمن سيأتي إلى السلطة سيحمي الدستور المواطنين من التعسف في استخدام السلطة، سواء كانت تشريعية أو تنفيذية، ومن حسن الحظ أن مصر مازال لديها نظام قضائي محترم وقوي يكمل ثالوث الديمقراطية. وما أخشاه هو أن "النزاع حول التفاهات" الذي كان سائدا في عهد مبارك يمكن أن يبعد الأمة عن القضايا المركزية: الدستور والقدرة على الإنتاج، فكلما طال هذا المسار غير المثمر كلما طالت مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية. لا يجب أبدا أن نفقد الأمل، وعلى العالم أن يدعم الديمقراطية التي تجاوزت مرحلة الحمل، وهى الآن في فترة المخاض، وعلى وشك الولادة.