يستمرّ رمضان سلميا ونستمر معه بدمويتنا وحبنا للحياة.. جاء في سلام فاستقبلناه بأسلحة وعدة وعتاد.. جاء ليخفف عنّا فأثقلنا على أنفسنا بمزيد من الهموم.. ومن أكبر هموم رمضان كانت الدعوات المستمرة.. "عزومة ماما.. وعزومة خالتي وأخوتي والست مديحة جارتنا ومائدة الرحمن التي امتدت من بداية الشهر حتى نهايته" وكل هذا لا يُذكر إذا تحدثنا عن عزومة العمة بكيزة. يحدث هذا كل عام حينما يهلّ رمضان ويأتي زوجي منتفخا فخورا متباهيا وهو يتحدّث بنشوة منقطعة النظير قائلا بلهجته المسرحية وهو يقلب عينيه: "استعدي يا ستي.. عمتي بكيزة منسيتناش كعادتها وعزمانا بكرة في فيلتها الجديدة"، وأمام هذا الفرمان اتنهّد بحسرة وأنا أسأل نفسي: "هالبس أيه.. معنديش طقم واحد عِدل وهناخد معانا إيه.. مهما خدنا هتبقى حاجة حقيرة جدا جنب هيلمان فيلة عمته" ونذهب كعادتنا مرتدين أفخر الثياب "ف نظرنا طبعا" وندخل لنفتح أفواهنا بعجب أمام نافورة المياه المتدفقة في الحديقة والمسبح المترامي الأطراف والبوابة الحديدية المزخرفة وبوابة الخشب الزان التي نعبر منها لجنة الخلد.. "فيلة عمتي بكيزة" قالها زوجي بمليء فيه ونحن ندخل وتستقبلنا العمة بخدمها وحشمها وضيوفها "المنشيين" وديكوراتها المذهلة وأثاث منزلها الفاخر وسفرتها الرمضانية العامرة وكالعادة أيضا تشير العمة بكبرياء عجيب للمائدة مدعية أنها قد طبخت بنفسها نصف الأصناف التي لا نعرف عنها أنا وزوجي شيئا مستغلة فرصة جهلنا المطبق بالأطعمة الغربية العجيبة والشرقية الفريدة فنجلس منبهرين لتشير العمة للأطباق العملاقة وهي تهتف بكبرياء لا يفارق نبرة صوتها: "اتفضلوا يا جماعة.. عملالكوا أصناف جديدة.. دوقوا الشيوكارا باللحمة.. لأ يا محمود.. دا عرف الديك بالكاري.. ودا مش فتة.. دي فراخ فولافون بالمشروم.. ودا توست برازيلي.. ورز أخضر بالتوم.. لازم تدوق شوربة الباستا بالبروكلي.. والكاليماري بالشامبنيون.. وبيكاتا عشب البحر" ولأننا في هذه المائدة الرفيعة المستوى لا نعلم زيد من عبيد فلا نملك إلا ابتسامة مستحية وأيادٍ خفية تلتقط كل ما لذ وطاب بصمت ودأب منقطعي النظير وزوجي يأكل بحماسة معتادة وهو يوكزني ويشير للأصناف التي تطالها يداه وفمه وهو يهتف بلهجة الناصح الأمين "دوقتي دا.. تحفة.. معرفش دا عليه أيه بس يجنن.. البتاع دا مدهش شكله لوحده يصوّر" يتخلل هذا إشارات العمة بطريقة أو بأخرى لحنكتها الرهيبة وذكاءها الفطري وقدرتها الجبارة على طبخ كل هذه الأصناف التي يعجز عن نطقها اللسان رغم أننا نرى بأعيننا الطباخين في حالة نشاط عجيبة من المطبخ للسفرة ومن السفرة للمطبخ وهكذا دواليك. هذا غير روايتها عن قصص بطولات زوجها المصون ورحلاته التي نافست رحلات ابن بطوطة مشيرة للسجاجيد العجمي والسجاجيد الحرير الإيراني والستائر المذهبة والمقصبة والتي جاءتهم محمولة على الأعناق من الهند ومن فوق ظهر الفيل.. وزوجي يبدو منبهرا بكل هذا وما يلبث أن يميل عليّ بفكرة لم أتوقع أن يخرج بها في خضم هذه الأحداث وهو يقول: "عايزين نعزم عمتي بكيزة عندنا مرة.. ميصحش.. الست بتعزمنا كل سنة عندها"، أصابتني "شرقة" مفاجأة وبالكاد ابتلعت اقتراحه الرهيب بكوب ماء مثلج ثم ملت عليه قائلة بابتسامة مرسومة: "وماله.. نعزمها.. منعزمهاش ليه.. بس الأول عايزين نصلّح سيفون الحمام اللي بايظ.. ونغير السيراميك التعبان.. وبالمرة الستاير اللي ولادك عملوها مراجيح وسجادة السفرة المنحولة والسيراميك اللي مكسور منه بلاطتين على العتبة.. ومتنساش مفرش السفرة المخروم وطقم الشوك والمعالق اللي على كل شكل ولون.. والصيني اللي راح نصه ف الوبا.. دا غير الحيطة اللي ولادك عملوها خريطة لازم برضه تاخد وِشّ.. وورق الحائط اللي بقى زي ورق البوسطة.. وكراسي السفرة المخلوعة والطربيزة اللي بتزوك.. وإيدك بقى على كام ألف اشتري بيهم لحمه وفراخ وبط وحمام وحلويات ومشاريب ومتتعشمش بعد كل دا أننا نستر قدام عمتك" عندها ابتلع زوجي لقمة كانت محشورة في زوره وهتف قائلا بصوت غاضب سمعه كل من بالسفرة حتى عمته: "يا ساتر يا رب.. أنت أيه يا شيخة.. كنت باهزر معاك.. هو بلاش الواحد يهزّر مع مراته".