على حافة الموت يقفون، لا يملكون من الحياة سوى أحلام بسيطة تغازلهم بين الحين والآخر فى جوف الصحارى، رجال لا يعرفون الخوف حتى وإن جاءت خدمتهم العسكرية على حدود مصر، وفى أكثر المناطق خطراً. منافذ للموت لا يستطيعون صدها، يقفون فرادى متفرقين وفى يد كل منهم بندقية آلية تعجز عن مواجهة الرشاشات وال«آر بى جى»، يتسلمون مهامهم فى تلك المناطق الحدودية من شهداء غيرهم، تركوا أماكنهم فى مشاهد مماثلة مع اختلاف التوقيت، ظلوا يؤدون واجبهم حتى استهدفتهم يد الغدر، لكنه دورهم وواجبهم حتى وإن تسلموا الراية من شهداء، وإن اشتدت حرارة الجو فى نهار رمضان، وإن زاد الخوف فى ليل الصحارى، يتمسكون بكتاب الله، يقضون يومهم ما بين مراقبة الطريق وقراءة آيات قرآنية تقربهم إلى الله، «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» صدق الله العظيم. فى العمل عبادة يتقنونها جيداً، يبتعدون عن إغراءات المهربين وسطوتهم يبحثون عن الحق ويحاولون نصرته، فيتربص بهم الموت، طلقات الرصاص تهبط عليهم من حيث لا يدرون، فتقصف أرواحهم، وتغرق الدماء ملابسهم، وتدوى أصوات طلقات ال«آر بى جى» فى المكان، لا صوت يعلو فوق صوت الشهادة، يسقط العشرات دفاعاً عن الوطن، ويسدل ستار الحزن فى قلوب الملايين وقت انتشار الخبر بين الجميع. لكل واحد قصة ترويها أُمه وتتغنى بها أسرته، لكل منهم مواقف وذكريات تتسلل إلى ذهن محبيه، فتزيد من آلامهم وأوجاعهم لحظة الفراق، قبل رحيله كان يودع كل فرد فى عائلته دون أن يدرى أنه ترك من الحكايات والمواقف ما يحكيها الكثيرون من بعده، يترك لهم سيرة عطرة، تتصدر أخباره صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون، بطولة يصنعها بشجعاته وأدائه لمهمته يصنعها برحيل غير محسوب. خبر الرحيل ينزل كالصاعقة على رؤوس أقاربه وذويه، فيضرب الحزن بقلوب الأمهات المكلومة والزوجات الثكالى والأطفال اليتامى. تتزين السماء لاستقبال الشهيد، تغسله الملائكة، تفوح رائحة المسك من جسده الغارق فى الدماء، تنزل السكينة فى قلوب أمهاتهم وذويهم، فقد كرمهم الله بشهيد يشفع لسبعين من أهله، يوم القيامة، يلتحف بعلم الجمهورية فهو شهيد الواجب، يخرج فى جنازة عسكرية مهيبة يترأسها رئيس الجمهورية ووزير الدفاع وكبار المسئولين فى الدولة. «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ» صدق الله العظيم.