إن جلال وثيقة الدستور وعظمتها تأتى من تعبيرها عن ضمير الأمة وإرادتها جميعاً، ولا يرفع الدستور قامته شرقاً وغرباً إلا حينما يعز الجميع ويحترم الجميع، وتكون روحه ونسيجه متكاملة متناسقة تحاكى الأمة فى مجموعها. تهب الثورات على الحكام والدول الديكتاتورية فتسقط ومعها دساتيرها، برغم أن موادها الجامدة المكتوبة تحتوى على مفردات الحرية وآليات الحقوق وأدوات الواجبات، ولكنها تهوى لأنها جسد سخره الحكام جمادا بلا روح، فكانت وثيقة فشل واستحواذ وسيطرة، وخريطة بقاء للديكتاتور وأعوانه! مصر الآن تكتب دستورها وهو حق أمتنا الثابت بعد ثورة روتها دماء المصريين جميعا بلا فرق بين لون سياسى أو جماعة، إن الدستور كلمة الأمة، وفى البدء كانت الكلمة للوحدة والتوحد، دستور ينص على علاقة الحاكم والمحكومين، وعلاقة المحكومين ببعضهم، وعلاقة الجميع بالدولة، إن تلك الوثيقة الإبداعية، لا بد أن تكون ملك الجميع، إن وثيقة السلام والاجتماع لا تكتب من مواقع التفرقة والترصد والتعارك، كتابة الدستور ليست مهمة الأغلبية ولكنها مهمة كل من يعيش فى الوطن، لأن الأغلبية تكون نتاج نزاع سياسى وانتخابات تحتمل تغير نتائجها بمرور الأيام وبتغيير الظروف، فكيف لوثيقة تترجى الدوام أن تكتبها جمعية نتاج مؤقت!! إن الحال الآن فى مصر فى منتهى الحرج، ولا شك أن الانقلاب الحاضر على العدالة والتنوع والارتكاز على المهارة والكفاءة يقوض مهمة هذه اللجنة التأسيسية ويجعلها محل اتهام وفى دوائر المطاردة! وبات ثابتاً أن مخرجات هذه اللجنة تتأثر بهذا الجمود من ناحية وبالمطاردة وعدم الثقة من ناحية أخرى، ويتضح من المخرجات والتسريبات أن هناك نزاعاً بين الظلام والنور، وهناك مفاوضة بين الرجعية والتقدم، وفى هذا السياق لا يمكن أن يكتب دستور يعبر عن ثورة ترجت الحرية والحداثة والكرامة والتقدم، إن رؤى بعض التيارات التى تتدثر بالدين ترى أن تفرضها عنوة على الجميع، وبذلك يخضع المجموع المصرى والوطن على رحابته وأريحيته لتفسير ضيق لبعض أمور الدين ومن وجهة نظر جماعات وحدها دون غيرها، تلك الحالة هى حالة القسر والإجبار وباسم الدين والإله كما يزعمون ستنتج دستوراً مبتسراً وعاجزاً حتى عن الحياة نفسها!! وسيكون دستورهم قصير العمر قليل الحيلة، ومشتبكاً مع كل ما تم سنه من قوانين على مدار تاريخ مصر الحديث، وسنرى مهازل فى دعاوى أمام المحكمة الدستورية ستعطل تسيير أى حكم، وستقف العدالة حائرة على جور الدستور على مكتسبات الأمة خلال ما يربو على المائة سنه. ومن غرائب الأمور أن تحتوى اللجنة أعضاء نظاميين من الحزب الوطنى المنحل بقوة القانون، فمن كانت الثورة ضدهم وقامت من أجل دستورهم فاقد الشرعية السياسية والشعبية، أشركهم أصحاب التأسيسية فى كتابة مستقبل مصر بعد ثورتها عليهم! إن الاستقلال والدستور اللذين طالب بهما أجدادنا ورموزنا فى النضال سعد زغلول وغيره، ما زالا هما المطلبين الأساسيين بعد قرن من الزمان، فاستقلال القرار السياسى عن الولاياتالمتحدة مطلوب، وإنشاء دستور وطنى يعبر عن إرادة الأمة الجامعة وإرادة الأمة الحاضرة الآن مطلب حيوى ودونه الموت! إننا ندافع عن الدستور حتى لا يباع فى أسواق الاستبداد والأغلبية الظاهرية المتغيرة، فمصر لا تحتمل مرة أخرى تياراً واحداً يريد حريته هو وأفكاره هو على حسابنا جميعاً، وبسيف الدين وخضوعنا له يأخذ ما ليس له، ولنا فى الإمام محمد عبده الأسوة حينما قال إن الفقه الحقيقى أن تنظر إلى شرع الله فى جملته ومضمونه ومجموعه (لا فى كل مسألة بمفردها)، وقال أيضاً إمامنا الأزهرى الجليل ومفتى الديار الأسبق إنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وإن الباطل لا يصير حقاً بمرور الزمن. باسل عادل [email protected]