أصل المشكلة فى فهم الأمر فى قوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» (البقرة: 185). بمعنى أن المريض والمسافر عليها القضاء فى أيام أخر من غير رمضان. فما حكم الصيام فى رمضان؟ مذهبان. (1) المذهب الظاهرى وروى عن بعض الصحابة منهم ابن عباس وابن عمر وأبوهريرة قالوا: إن صوم المريض صحيح. أما صوم المسافر فغير صحيح، على أساس أن الله تعالى أمره أن يقضى بعد رمضان فى قوله «فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»، فلو صام فى رمضان لم يحسب له على أنه من رمضان. وله أن يصومه تطوعاً أو عن صوم واجب فى ذمته. ولعل دليلهم فى استثناء صحة صوم المريض أن علة المرض تمنع من إجبار المريض على الطعام أو على ترك الطعام، فهذه مسألة ترجع إلى اختلاف حاله ووضعه، فتركوا الأمر له. (2) وذهب أكثر أهل العلم إلى أن صوم المريض أو المسافر فى رمضان صحيح، فله أن يصوم وله أن يفطر؛ على أساس أن قوله تعالى: «فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» مبنى على المجاز بتقدير محذوف، كأن الله تعالى قال: فعدة من أيام أخر إذا أفطر. وأكدوا فقههم بما أخرجه البخارى ومسلم عن أنس بن مالك، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون، فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. وأخرج مسلم عن أبى سعيد الخدرى قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن. ولكن الصوم فى حق المريض والمسافر لا يقف عند هذا الحكم، فنحن فى أنابيشنا الفقهية نقوم بمعالجة المسائل الدقيقة التى تفتح آفاقاً تيسيرية، وتحمى من أوصياء الدين. ومن تلك المسائل ما يلى: 1- صفة المرض المرخصة للفطر. 2- شروط السفر المرخصة للفطر. 3- حكم انقطاع السفر بالإقامة، مثل المسافر يرجع بلده أثناء نهار رمضان يمسك أم يفطر؟ 4- هل يجوز لمن دخل عليه رمضان أول الشهر أن ينشئ سفراً أثناء الشهر ويفطر فيه، أو أن يحبس فى بلده من أجل أن يصوم وإذا سافر لم يكن له حق الفطر؟ أولاً: صفة المرض المرخصة للفطر: اختلف الفقهاء فى تلك الصفة على مذهبين. (1) يرى جمهور الفقهاء: أن صفة المرض المرخصة للفطر هى التى يخشى معها تعب ومشقة، ولا يشترط أن ينتهى إلى حالة لا يمكنه فيها الصوم. واستدلوا بما أخرجه عبدالرزاق عن ابن جريج أنه سأل عطاء بن أبى رباح: من أى وجع يفطر فى رمضان؟ قال: منه كله. فقال له: يعنى يصوم حتى إذا بلغ الوجع مبلغه أفطر؟ قال: نعم، كما أمر الله. (2) ويرى الظاهرية وابن سيرين: أن أدنى ما يسمى مرضاً وإن لم يخش زيادته يجيز الفطر فى رمضان؛ لإطلاق الآية «وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ». ثانياً: شروط السفر المرخصة للفطر فى رمضان. هى نفس الشروط المرخصة لقصر الصلاة الرباعية فى السفر. وهى محل خلاف فى الجملة. نوجزه سريعاً: الشرط الأول: أن يكون السفر لمسافة تبعد عن محل الإقامة قدراً معيناً. وهذا شرط متفق عليه. ولكنهم اختلفوا فى تقدير مسافة السفر على أقوال كثيرة أشهرها: (1) قال ابن عمر وهو مذهب الظاهرية: ميل واحد، مثل البقيع بالنسبة للمدينة المنورة أيام النبى صلى الله عليه وسلم. (2) قال ابن تيمية: إن ما يسمى سفراً فى أعراف الناس هو السفر المرخص للفطر والقصر؛ لأن الشرع إذا لم يثبت فيه دليل صحيح فى التقدير رجعنا إلى العرف وتسمية الناس. (3) قال جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة: إن مسافة السفر للفطر أو للقصر أربعة برد أو ستة عشر فرسخاً أو مسيرة مرحلتين بالسير الوسط، ويقدر ب85 كيلومتراً. واستدلوا بما أخرجه الدارقطنى بإسناد ضعيف والصحيح كما عند ابن خزيمة أنه موقوف على ابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقصروا الصلاة فى أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان» وتلك مسافتها من 70 - 80كم. (4) وذهب الحنفية إلى أن مسافة السفر للقصر والفطر مسيرة ثلاث مراحل حوالى 130كم. وحجتهم أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع محرم، فيما أخرجه الشيخان عن ابن عمر، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذى محرم». وفى رواية لمسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم». لكن ربما يَرِد على دليل الحنفية، أن الحديث روى بمسيرة يومين فى رواية أخرى للشيخين عن أبى سعيد الخدرى، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافر المرأة يومين إلا معها زوجها أو ذو محرم». الشرط الثانى للسفر المرخص للفطر فى رمضان: ألا يكون فى معصية، كالسفر لقطع الرحم أو قتل النفس المعصومة. وهذا مذهب المالكية والشافعية. وحجتهم أن رخص الله تعالى بالفطر والقصر لا يليق أن تكون إعانة على المعصية. لكن ذهب الحنفية والظاهرية إلى عدم الاعتراف بهذا الشرط؛ لأن الرخصة متعلقة باسم السفر، دون الدخول فى نوايا المسافر فلعله يستحى من الله أن يعصيه مع كرم الله له. أما الإمام أحمد فقد اشترط فى السفر المرخص للفطر والقصر أن يكون قربة وطاعة لله، فلا يكفى أن يكون السفر مباحاً كالسفر للتجارة أو للسياحة. لكن اشترط أن يكون السفر طاعة مثل العمرة وصلة الرحم وتوصيل الصدقات لأهلها، لأن الرخصة يناسبها القربة. الشرط الثالث للسفر المرخص للفطر: أن يبدأ السفر قبل الفجر، فإن سافر بعد الفجر، بأن يطلع الفجر وهو مقيم ببلده ثم يسافر بعد طلوع الفجر أو خلال النهار فقد اختلف الفقهاء فى ذلك على مذهبين. المذهب الأول: يجب عليه إتمام صيام هذا اليوم، ويحرم عليه الفطر. وهو مذهب الجمهور قال به الحنفية والمالكية وهو الصحيح عند الشافعية ورواية عند الحنابلة. وحجتهم عموم قوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (البقرة: 185). قالوا: وهو شاهد ليومه فيجب عليه الصوم. المذهب الثانى: يرى أن من حق الصائم السفر بعد الفجر وله حق الفطر. وهو المذهب عند الحنابلة وإليه ذهب بعض الشافعية منهم المزنى، وبه قال الشعبى والحسن. وحجتهم ما أخرجه مسلم والترمذى عن جابر بن عبدالله، أن النبى صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح، فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصار الناس معه، فقيل: يا رسول الله إن الناس قد شَقّ عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيم فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون إليه. فأفطر بعضهم، وصام بعضهم. فبلغه أن ناساً صاموا. فقال: «أولئك العصاة». الشرط الرابع: ألا ينوى المسافر الإقامة التى تسقط الرخصة. واختلف الفقهاء فى المدة التى تجعل المسافر مقيماً على مذهبين فى الجملة. المذهب الأول: يرى ألا تقل مدة إقامة المسافر عن خمسة عشر يوماً. حتى يكون مقيماً، وقيل ثمانية عشر يوماً. وهو مذهب الحنفية؛ لما أخرجه أبوداود بسند فيه مقال أن النبى صلى الله عليه وسلم أقام فى مكة ثمانى عشرة ليلة لا يصلى إلا ركعتين، ويقول: «يا أهل البلد صلوا أربعاً فإنا قوم سفر». وفى بعض الروايات أنه أقام فى مكة خمسة عشر يوماً. المذهب الثانى: يرى أن أقل مدة للإقامة تسقط رخصة المسافر أربعة أيام. وهو مذهب جمهور الفقهاء؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم - كما أخرج أبوداود بسند فيه مقال - قدم مكة فى حجة الوداع صبيحة رابع ذى الحجة، وأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، ثم خرج إلى منى فى اليوم الثامن، وكان يقصر الصلاة فى هذه الأيام، كما عزم على الإقامة فيها. ثالثاً: حكم انقطاع السفر بالإقامة. مثل المسافر وهو مفطر ثم يعود إلى بلده أثناء النهار، فقد اختلف الفقهاء فيه على مذهبين. المذهب الأول: يرى أن العائد من السفر وهو مفطر لا حرج عليه أن يتمادى فى فطره خلال يومه يأكل ويشرب دون حرج. وهو مذهب الجمهور؛ لأن الصيام لم يكن عليه واجباً أول وقت الوجوب، وهو ساعة الفجر. المذهب الثانى: يرى أن العائد من السفر وهو مفطر يجب عليه أن يمسك عن المفطرات من ساعة دخوله بلد إقامته. وهو مذهب الحنفية؛ لأن رخصة الفطر انتهت بالعودة إلى محل إقامته. وإن كان صيام هذا اليوم فاسداً لحدوث الفطر فى أوله. وقال الحنفية: هذا الحكم ينطبق أيضاً على المرأة التى انقطع حيضها أثناء النهار فى رمضان. رابعاً: حكم من دخل عليه رمضان وهو مقيم ثم أراد أن ينشئ سفراً من أجل الفطر. فقد اختلف فيه الفقهاء على مذهبين. المذهب الأول: يرى أن من حق المسلم إذا دخل عليه رمضان وهو مقيم أن يسافر حيث شاء فى أى وقت شاء لقضاء مصالحه غير المحرمة. وله أن يفطر فى أيام سفره، مثل سفر الزوجين فى رمضان للعمرة أو للزيارة أو للسياحة. وهذا مذهب جمهور الفقهاء فى المذاهب الأربعة فى الجملة ومذهب الظاهرية. وحجتهم أن النبى صلى الله عليه وسلم خرج فى عام الفتح فى رمضان مسافراً وأفطر، كما أخرجه مسلم عن جابر. المذهب الثانى: يرى أن من دخل عليه أول رمضان لا يجوز له أن ينشئ سفراً طوال الشهر إلا إذا استمر فى صومه. فلا سفر لمن وجب عليه صوم رمضان حتى يتم الشهر، وإذا سافر لم يكن سفره رخصة تجيز الفطر. وهو قول بعض الصحابة منهم على وابن عباس، وبعض التابعين منهم عبيدة السلمانى، ت 72 ه، وسويد بن غفلة، ت 82 ه، وأبومخلد عطاء بن أبى مسلم، ت 92ه. وحجتهم عموم قوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (البقرة: 185)، ولأن السفر يحتمل أن يقصد به الفطر وليس مصلحة السفر فى ذاتها، فيجب أن نعامله بنقيض قصده. هذه هى أقوال الفقهاء وأدلتهم التى من حقك أن تعرفها؛ لتتخذ قرارك بكل سيادة، فكل ما ذكرناه يجوز العمل به؛ لصدوره من أهل الذكر. وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله مع أنبوشة فقهية أخرى.