ما زالت أصداء المؤتمر الصحفى لمخرج وأبطال فيلم «بعد الموقعة» لم يأت كما كنا نرجو؛ حضور قليل من جانب الصحافة الفرنسية، وحضور ملحوظ من جانب الصحافة المصرية والعربية عموما. لكن المشكلة أن حديث يسرى نصرالله، مخرج الفيلم، جاء فى معظمه متركزا حول السياسة، أى حول تطورات الأحداث فى مصر منذ ثورة 25 يناير 2011، وكذلك جاءت معظم الأسئلة التى وجهها بعض الحاضرين، بل إن أحدهم توجه بسؤال إلى منة شلبى وناهد السباعى عن رأيهما فى الرئيس القادم! كان الاهتمام بتجربة الإنتاج والتصوير فى ظروف واقع متغير بشدة، أكثر بكثير من الاهتمام بالتجربة السينمائية فى أبعادها الفكرية والجمالية. قبل المؤتمر الصحفى افتتح برنامج «نظرة خاصة»، الذى يعرض خلاله 20 فيلما ويأتى فى المرتبة التالية فى الاهتمام مباشرة بعد المسابقة الرسمية، بالفيلم الصينى «لغز» (Mystery) للمخرج لو يى (Lou Ye) الذى سبق أن عرض فيلمه «القصر الصيفى» فى مسابقة مهرجان كان عام 2006، وكان مملوءا بمشاهد الجنس على نحو فاضح للغاية، وكان الفيلم مدعوما من طرف شركة إنتاج فرنسية. وقد أدى عرض الفيلم الذى كان يوجه انتقادات جارحة للثورة الثقافية فى الصين، إلى غضب السلطات الصينية على مخرجه، ومنعه من العمل بالسينما لخمس سنوات. لم يكن الغضب نتيجة النقد السياسى الصريح فى الفيلم، بل بسبب إغراق الفيلم لأول مرة فى مشاهد الجنس السادى العنيف بطريقة تتجاوز ما يقدم فى السينما الغربية، وبشكل صادم للجمهور. اليوم يعود المخرج نفسه بفيلم لا يقل جرأة فى مشاهده الصادمة عن سابقه. و«لغز» هو الفيلم السابع لمخرجه، وهو يروى قصة العلاقة المعقدة بين زوجة وزوجها الذى تكتشف أنه على علاقة بامرأة أخرى، وعندما تبدأ فى البحث حول هذه «الخيانة» الصادمة، تتداعى الكثير من الأحداث الدموية. هذا الهوس بالعنف والجنس (هناك أكثر من مشهد اغتصاب سادى فى الفيلم).. كان واضحا أيضا فى الفيلم السابق للمخرج نفسه الذى نجح فى تصويره فى فرنسا بعنوان «حب وندوب» بطولة طاهر رحين، الممثل الجزائرى الذى تألق فى فيلم «نبى» الفرنسى من إخراج جاك أوديار. ول«أوديار» فيلم جديد فى المسابقة بعنوان «صدأ وعظم» تتألق فى بطولته الممثلة ماريون كوتيار (التى حصلت على جائزة الأوسكار عن دورها فى فيلم «الحياة وردية») كما برعت فى أداء دور المغنية الفرنسية الشهيرة إديث بياف قبل ثلاث سنوات. فيلم «صدأ وعظم» فيلم تدور أحداثه فى فرنسا فى بلدة تطل على البحر، بطله «على» العاطل عن العمل المطارد من قبل الشرطة، الذى يعول ابنه الذى لا يكاد يعرفه، ولولا وجود شقيقته بجواره لعجز عن التصرف.. وهو ينتقل من عمل إلى آخر.. يسعى لمجرد النجاة والبقاء على قيد الحياة ولو على الهامش، غير أن حياته تتغير تماما عندما يلتقى ب«ستيفانى» التى تعمل فى ترويض الدلافين المتوحشة وتعليمها الرقص، لكنها تتعرض لحادث بشع عندما تهاجمها الدلافين وتمزق ساقيها مما يؤدى إلى بترهما، وتصبح هى بالتالى معاقة تعتمد على مقعد بعجلتين فى البداية قبل أن تتماسك وتلجأ لتركيب ساقين صناعيين، وتتوطد علاقة «ستيفانى» ب«على» الذى يجد نفسه تدريجيا منغمسا عاطفيا معها. إنه فيلم عن الرغبة فى التماسك، عن عبث الحياة عندما تحكم وطأتها على مصائر الأفراد، «على» مثلا، الذى يكاد يكون عديم الجذور، يتسبب بحماقته فى موت ابنه الصغير «سام»، كما يتسبب بسبب تصرفاته الرعناء فى طرد شقيقته من عملها. ورغم قسوة الأحداث ينتهى الفيلم بنوع من التفاؤل، فهو من زاوية أخرى، فيلم عن الإرادة الإنسانية التى يمكنها أن تقهر المرض كما يمكنها أيضا أن تنتصر للحب. فيلم «صدأ وعظم» عمل شديد الواقعية، مصنوع بمهارة، فيه الكثير من الصدق فى تصوير الشخصيات، كما يعد إعادة تأكيد للموهبة الكبيرة التى تتمتع بها ماريون أوديار التى تنجح فى تمثيل دور «ستيفانى»، فى نزقها وغموضها، ولوعتها وإقدامها المجنون على المغامرة، فى صدمتها وعجزها وتمكنها من قهر العجز ومواصلة الاستمتاع بالحياة ولو على طريقتها الخاصة، بل إن الفيلم يركز أيضا كثيرا على إحساس المرأة بجسدها ورغبات هذا الجسد وقدرتها على استعادة الرغبة والقدرة على ممارسة الحب. ولا شك أن الأداء البارز لماريون كوتيار يمكن أن يضمن لها الحصول على جائزة أحسن ممثلة فى مهرجان كان.. وإن كان الوقت مبكرا للتنبؤ بالنتيجة. صحافة كان و«بعد الموقعة»: أصداء الفيلم المصرى فى المسابقة «بعد الموقعة» ليسرى نصرالله ما تزال تتردد على الكروازيت، مجلة فاريتى التى تصدر يوميا خلال المهرجان مع غيرها من المجلات الشهيرة المتخصصة فى الصناعة السينمائية، نشرت نقدا للفيلم بقلم جاى ويسبرج، يعرض لموضوعه فى علاقته بأحداث الثورة، ويقول إن «يسرى» لا يقف مع أى من الجانبين؛ الجانب المؤيد والجانب المعادى للثورة، بل يحاول أن يفهم الجانبين بطريقة أكثر عمقا من المفهوم السطحى الذى يتلخص فى «من ليس معنا فهو ضدنا». ويرى الكاتب أن الفيلم يوجه نقدا لكلا الطرفين، ويكشف عن أنماط فى السلوك تشكلت خلال عشرات السنين من الاستغلال والتعصب. ويرى الكاتب أيضا أن شخصية «ريم» التى تقوم بها منة شلبى، هى شخصية منافقة فارغة، على العكس مما يعتقده البعض من أنها الناطق باسم يسرى نصرالله فى الفيلم، حسب قوله. ويشيد الكاتب باختيار «يسرى» للممثلين وخصوصا أصحاب الأدوار الثلاثة الرئيسية فى الفيلم، كما يشيد بتصوير سمير بهزان المعبر سواء بالإضاءة الساطعة التى تضفى أجواء الميلودراما التى تتقاطع مع تعقيدات القضايا التى يطرحها الفيلم. خليط سطحى: أما مجلة «سكرين إنترناشيونال» فقد نشرت أيضا مقالا نقديا بقلم فيونولا هاليجان، لكن المقال على العكس من مقال «فاريتى»، ينتقد الفيلم بقوة، موضحا من البداية مثلا أن «يسرى نصرالله فى محاولته النفاذ إلى عمق الموضوع المثير للجدل من خلال شخصية «ريم» المحورية، لا ينجح قط فى انتشال شخصياته من الحبكة المصممة سلفا رغم الزمن الطويل للفيلم». وتمنح المجلة الفيلم نجمتين (من خمسة) كما يمنحه نقاد آخرون فى الاستطلاع اليومى الذى تجريه «سكرين إنترناشيونال» نجمة واحدة (5 نقاد من عشرة) ويمنحه كل من الخمسة الآخرين نجمتين. وهى تقديرات ضعيفة لا ترشح الفيلم للحصول على أى من جوائز المهرجان الرئيسية، لكن ترشيحات النقاد شىء، ونتائج لجان التحكيم شىء آخر! أما ديبورا يونج ناقدة مجلة «هوليوود ريبورتر» فتثنى على الفيلم قائلة: «إن أعظم جوانب الفيلم تتعلق بمهارة يسرى نصرالله الكبيرة فى طريقة سرد الأحداث، وهى طريقة تتيح لمشاهدى الفيلم من غير المصريين مدخلا سهلا لمشاهدة آلاف المتظاهرين المصريين فى ميدان التحرير الذين تم الاعتداء عليهم بوحشية فى فبراير 2011...». وتمضى «ديبورا» قائلة: «إن نصرالله ينجح فى استخدام الأهرامات كخلفية طبيعية للأحداث، كما يجعل سكان منطقة نزلة السمان (الذين ينظر إليهم كبلطجية ومهربى آثار من جانب أصدقاء «ريم» من أبناء الطبقة الوسطى) فى علاقة عضوية مع العالم القديم مما يستدعى إلى الذاكرة كلاسيكية شادى عبدالسلام أى فيلم «المومياء» الذى تم ترميمه مؤخرا وهو فيلم مصرى آخر عن كيف يصحح المصريون تاريخهم». وبينما تنتقد الكاتبة أداء منة شلبى الذى تصفه بالمبالغة، تشيد بأداء باسم سمرة فى دور «محمود» تلك الشخصية «التراجيدية» حسب وصفها. وتعتبر «يونج» فى المحصلة النهائية أن يسرى نصرالله عالج موضوعه بذكاء وجرأة.