لم يمر كثيراً على خروجى من القوات المسلحة بعد سبع سنوات بالغة الصعوبة، انتهت بحربى الاستنزاف والعبور. ربما فى صيف 1975 أو 1976، تخطيت الثلاثين من عمرى التعس. أسير محبطاً فى محطة الرمل بالإسكندرية. واجهات السينما تعرض ثلاثة أفلام عن الحرب التى خضتها. أفلام ضحلة وقحة. إنها تجارة حقيرة بنصر من أهم انتصارات جيش مصر العظيم. آلاف الشهداء والمصابين والمفقودين فى المعارك التى بدأت من 48 مروراً ب56، ثم يأتى تجار غلاظ يتاجرون بهذا النصر بكل هذه البرود، ثم يقال عنها سينما الحرب المصرية؟ الأفلام (سلق بيض وارمى)، ثم اقبض فلوس وخدلك شهرة على حساب الوطن. أسير هائماً فى شارع صفية زغلول، أنظر للصور والأفيشات الشاسعة الملصقة على الواجهات العالية وتبرز فيها وجوه بعض الممثلين المشهورين. أتعجب: هل هذا السمج يمثل زملائى الشهداء، أمثال مسعد، ونصّار، وصلاح؟ هل هذا المخنث يمثل دور فاروق، وغبريال، وعبدالجواد، ودانيال؟ لا يمكن. وتتوالى تلك الأفلام. فيلم أبناء الصمت، فيلم جيد، ممثلوه صعب عليهم أن يقصروا شعرهم مثلنا ونحن فى سنوات الحرب، فإن قصروا شعرهم فسيفقدون فرصة التمثيل فى فيلم آخر فى نفس وقت تصوير هذا الفيلم، بالإضافة إلى أن الموضة وقتها هى الشعر الطويل والسوالف الثقيلة؛ فاستحوا أن يحلقوا شعرهم، ليماثل شعر الجنود الحق، هل هؤلاء التافهون يمثلوننى أنا ورضا وخليل والضابط لملوم؟ لماذا يطلب الشباب الذين ولدوا بعد العبور من محمد منير أغنية حدوتة مصرية؟ لأن كاتبها عبدالرحيم منصور وملحنها أحمد منيب ومطربها صادقون، ولم يدخلوا فى زحام القرعجية فى مولد أكتوبر التهليبى التخريبى. للآن نشيدنا هو (بلادى بلادى) لبديع خيرى، وسيد درويش. حتى الآن كلما سمعت قصيدة (مصر تتحدث عن نفسها) لحافظ إبراهيم ورياض السنباطى وأم كلثوم، يرتج قلبى حماساً، وعندما غنت المجموعة هذا النشيد الرائع فى الأوبرا بتوزيع عظيم وقور عميق، غصت فى هذا المحيط اللجى من الأصوات البشرية وأصوات الآلات الرائعة فتعمق الإحساس بهذه اللوحة الموسيقية الغنائية الوطنية. نشيد: «اسلمى يا مصر إننى الفدا» لِصَفَرْ على. ثم لماذا نحب أغنية «مدد مدد شدى حيلك يا بلد» للفنان محمد نوح؟ لماذا وأنا جندى كانت دموعى تنساب فى الفجر على ضفة لسان بحيرة التمساح، وأنا أستمع لأغنية القدس العتيقة للرحبانية وفيروز؟ بل لماذا التف مثقفو مصر والبلاد العربية حول الثنائى الرائع نجم وإمام؟ كلنا نطلب هذه الأناشيد لنستمتع بها؛ لأنها فن صادق صَدَر من القلب، ولم يتم توليفها لأجهزة الإعلام وقبض البكاوى مخصوماً منها الرشاوى، فالتقطته القلوب وبه ترتعش نشوة وتألقاً. وقتها حين ارتدى على الحجار ملبس الصاعقة وغنى نشيداً لم أرفضه، فقد كان وقتها شاباً نحيفاً فى قوة وعنفوان، لكن بعده يأتى شاب مايع مايص. ليغنى نشيداً وهو يرتدى ملبس الصاعقة، ويدخل المسرح ومن أول خطوة يتقصع مرجرجاً مؤخرته! شاهدته، فانتفضت صائحاً: لا، لا.. ده ولا رقّاصة فى خمّارة! البتاع ده يطلع ويغنى ويقوم بدور أبطال مصر وشهدائها؟ أضع يدى على قلبى الذى يكاد ينفجر. فرق كبير بين فنان حقيقى يعشق بلده، فيعبر عنها بصدق، وبين فنان كاذب وضيع، يستغل وطنه ليقبض بعض البكاوى ويعمل (نحتاية)، حسب أقوالهم. وقتها، من حوالى ثلاثين عاماً، فى شارع صفية زغلول، وأنا وسط إعلانات هذه الأفلام المخجلة عن حرب أكتوبر، انحدرت دموعى رغماً عنى، لم أشعر بالحرج، وبعضهم يتطلع إلىّ، فهم مجرد جهّال لم يعرفوا شيئاً عن عنائنا وعن تضحياتنا. هم لا يعرفون معاناة الجنود والضباط ولن يعرفوا، فصورتى وصور زملائى المشوهين والمصابين والشهداء تبدلت لتكون الممثل «السئيل» والممثلة العبيطة والنجم المخنث، بالإضافة لمن غنوا لنا وخدودهم ريّانة من الشبع والدلع وأضواء الكاميرات. هل يستطيع أحد حصر كم الأوبريتات السخيفة التى صرفت عليها الملايين فى أعياد أكتوبر؟ أين هى الآن؟ إنها المتاجرة بالشرف. المتاجرة بذكرى الشهداء والمصابين والمفقودين وجيل بذل زهرة عمره لمحو عار 67. والآن، كم من المشهورين وقفوا ضد الثورة، ثم رفعوا شعاراتها؟ وكم من المشهورين بالفعل كانوا وقوداً للثورة؟ من يعطى وطنه بصدق، من هو مستعد للتضحية بحياته فى سبيل بلده، فى الغالب لا تحتفى به بلده، وعادة تحتفى بمن باع وزاغ. فى بلدان صارمة فى الحق، الذى يتهرب من الضرائب، يتهم بالخيانة، ونحن من يرتكب الخيانة ربما يترقى! لماذا أتذكر كل ذلك الآن؟ وزير خارجيتنا نبيل إسماعيل فهمى، متهم بالتهرب من أداء الخدمة العسكرية! اتهمه البطل العظيم الفريق سعد الدين الشاذلى فى مذكراته، اتهمه بأنه بواسطة أبيه إسماعيل فهمى تم إعفاؤه من الخدمة بوصفه جندياً وتعيينه فى نيويورك! وبهذا صار فى أمان ولم يشارك فى ملحمة الحرب ومفرمتها. وحتى الآن سيادة الوزير لم يكذب هذا الاتهام! أنا من جيل سيادة الوزير، لماذا أقضى سبع سنوات فى الحرب، لماذا يستشهد قائد كتيبتى العقيد البطل عادل فهمى، لماذا يستشهد الأسطورة عبدالمنعم رياض، والعديد من القيادات العظام، والكثير من الضباط الشباب والجنود فى كتيبتنا، ويصاب من يصاب، والذى اتهم بالتهرب من القتال يتنعم فى نيويورك، ثم يصير وزير خارجية البلد الذى استشهدنا من أجله؟ أهذا بعد ثورة 25/30! معقول؟ هل تبتلع مصر شعارات ثورتها؟ متفائل أنا، فالثورة مستمرة.